| الثقافية
خلصنا في الحديث السابق إلى أن الخلاف بين الرجل والمرأة في الرواية العربية لم يكن خلافاً جوهرياً بالقدر الذي تتدخل فيه الأطراف لفض النزاع القائم بين الطرفين، وأنه نزاع مختلق في أساسه )في الوقت الحاضر( فلم تعد المرأة ذلك الكائن الضعيف بكل ما في الكلمة من معنى مثلما كان وضعها في العقود السابقة، وإن كنا نطمع في المزيد من تحقيق التوازن بين الطرفين في مستقبل الأيام، كما نطمع في ظهور رواية عربية متوازنة الرؤى تمثل مجتمعها بكل ما فيه من الحسنات والسيئات بلفظ أدبي مهذب غير مصطنع ولا مكيف لظروف وآراء خاصة بالكاتب، أو انطباع خاص بالرؤية الأحادية ذات التعبير المدرسي الموجه، وهذا المسلك ليس بالمسلك الذي ينتهجه الروائي الصادق مع نفسه، المخلص لفنه أولاً، فالكتابات ذات التوجه «المؤدلج» سلفاً كتب لها الفشل من الوهلة الأولى، لسبب واحد لا أكثر ، ذلك أنها تعبير مرسوم سلفاً في ذهن الكاتب فالفن لا يقبل أكثر من سلك طريقين ضيقين متنافرين، أما ان يكون الكاتب مسيراً لفكرة معينة هو طوعها فيما تأمر وتنهى، لايملك من نفسه شيئاً سوى إدراج القلم تحت يده منفذاً ما تأمره به من البداية إلى النهاية، لايعلم ما سيكتب غداً.
كما أنه لم يكن يعلم ما كان سيكتبه بالأمس، )عملية ألا وعي( وهذه أرقى عمليات الكتابة كما يؤكدها النقاد وهو عندي )حدث مخزون في الذاكرة تمليه الفكرة على الكاتب بإلحاح شديد(.
أما الثاني: فعكس الأول تماماً، آراء سابقة في ذهن الكاتب يفرغها على الورق كما يشاء هو وليس كما تشاء الفكرة الفنية، فهو الذي يقوم على تطويع الفكرة حسب مايريد هو وهذا في تقديري ليس من الفن الروائي في شيء وإنني أشاطر )ميك بال( في رأيه الذي يقول فيه بمحاكمة النص أو صاحب النص ومقصد بال من هذا الرأي، أنه يحدد النص بين اثنين، أما النص أو صاحب النص، وهو المقصد الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فإن كان النص فنياً أملي على الكاتب، فالمحاكمة للنص، دون كاتبه، وإن كان العكس، فالمسؤول هو الكاتب، لأن النص ليس فنياً. لكننا هنا نشاطر )جرار جنيت( رأيه في إشراك الكاتب في عمله، وقد أكدت في دراسات سابقة، أننا مهما حاولنا - وسيكون ذلك من العبث - ان نفصل الكاتب عن عمله، فلن نستطيع ذلك، فالإنسان جزء من ماضيه، بكل مدخلاته ومخرجاته، وهذا ما أكده علماء النفس وعلماء الإنسان، على أن الإنسان يقتات من ماضيه، كما يؤكد ذلك الناقد العالمي )أندريه قرين( في دراساته النقدية وجنيت لايتوقع من الكاتب أكثر من كونه سارداً لفكرة تملى عليه )السارد الخيالي ( الدي يسميه )المؤلف المفترض( وهو صورة للمؤلف الحقيقي. ولم يعي الكثير من الكتاب العرب، وغير العرب، هذه النظريات السردية في كتاباتهم، ولم يطلب منهم ذلك، فالمبدع يبقى تحت التأثير الإلهامي الذي لايعرف التنظير الفني، فالتنظير يتغذى على الإبداع الفني، بل بالعكس التنظير يعيق العملية الإبداعية، لكن هذا التعميم ليس بالتعميم المطلق في مناقشة العمل الفني، فالفرق سيكون بيد المتلقي، والمتلقي يتعامل مع العمل الفني بمنطق العقل الذي قد لايوجد في مخيلة الكاتب الروائي حين كتابة النص الإبداعي، والمسلمة نقل بلا تطبيق، فماذا تكون النتيجة في هذه المعادلات النقدية الصعبة قد لانجد الإجابة المباشرة عن سؤال كهذا، لكن الإجابة هي وجود التوازن الفني، فماذا يعني التوازن الفني/ يتوقف التوازن الفني على قدرة الكاتب في الصياغة الفنية بين المنطق العقلي والسرد الفني، أي التوازن بين السلب والإيجاب، الدخول إلى عقل المتلقي بالطريقة غير المباشرة. وقد أكد نقادنا العرب منذ القدم على هذه القضية فيما يسمونه )الغموض الإيجابي( يقول عبدالقاهر الجرجاني )الجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، والعزيز المحجب لايريك وجهه حتى تستأذن عليه( ويؤكد النقد الحديث صحة هذه القاعدة حيث يؤصل إشكالية النص. والرواية هي الفن الوحيد القادر على تشكيل الرؤية الفنية النقدية باحتواء النص على ماهية أمور كثيرة لا تستطيع الفنون الأخرى - مهما حاول مبدعوها - معالجتها. فالقصة القصيرة أو القصيدة - على سبيل المثال - لا يستطيع الكاتب الغوص في بحر الفكرة أو مجموعة الأفكار مثلما يستطيع الروائي الغوص فيها. فالايحاء والأسطورة والرمز والحكاية والتأريخ والفكر العلمي، كل هذه مصادر ثرية للرواية وثقافة الروائي القادر على توظيفها بالشكل اللائق بها، إذا كانت الفكرة هي المسيطرة على العمل الروائي، وليس العكس، مثلما ذكرنا آنفاً. وهذا ما لم تستطع القصة القصيرة ولا الشعر المعبر عن اللحظة الآنية بفكرة واحدة ولست مع الذين يدعون صعوبة هذا وسهولة ذاك، )فكل ميسر لما خلق له( فالعمل الروائي نسيج إبداعي لايقبل الخلل، ورقعة بيضاء لاتقبل الألوان الأخرى. فالمواهب تختلف باختلاف أصحابها، والمستويات الفكرية والعلمية والدربة والكفاح الفني، تحتاج كلها إلى صقل وتمرين مستمر. وهذه من الأمور البديهية التي لاتحتاج إلى مزيد من القول. وروايتنا العربية والنسوية منها على وجه الخصوص تحتاج إلى مزيد من إعادة النظر النقدية المتوازنة، خاصة ما ظهر منها في السنوات الأخيرة، حيث اختلف الوضع العلمي، وأصبحت المرأة مشاركة للرجل في الكثير من الأعمال الفكرية، إلا أن بعض الكاتبات قد تحاملن على الرجل بمفهوم قديم، واختلقن الضدية بين الطرفين وظهر التجنيس الفني بلا مبرر. وسنعرض هذه الإشكالية في مقالات لاحقة.
|
|
|
|
|