| الثقافية
قال المعنى ذاب السكون تحت وطأة صوت الكناس الأكبر الراحل «أبو عبدالله»
* من إحدى المحطات الإذاعية يغني:
رمش عينه بريد المحبة
بين قلبي وقلبه
.. وباقي الناس ما با يشوفونه
عنب في غصونه ..وغنى شاعري مردداً بصوت كله شدو وحزن ما با يفهمونه! طربا منتشيا ساخراً، وصفق بيديه في الهواء، وما يملأني بالحنق والغضب أن شاعري الوحيد في هذا الفضاء، الذي لا يعنيه ما حدث، وقد لا يكون على علم بكل هذه التطورات على رغم قربه الحفيف منها ، وكونه الوحيد صاحب الرهان في تلك اللحظة المجنونة، أعجبني فطور الكناس الغريب الذي ظل، يزدرد خبز تميس مغموسا في الفول بين كومة الزبالة والذباب، ظلت صورة الكناس الغريب ذي العينين الجاحظتين والجبهة البارزة، والوجه الابيض منكبا على اكل خبز تميس، وربما يقرأ شيئا في صحيفة امامه، كان المنظر كافيا ليجعلني الغي اول خروج منذ فقد صوتي، لم يستمر أكثر من دقائق لقراءة الصحف التي لم تزد قراءتها عن ثلاث دقائق، وخيل إليّ أن هذا الكناس الغريب الواجم ذي الجبهة البارزة المتهجم، ممتلئا بهذه اللحظة الخالدة التي المس في أفقها شيئا غير طبيعي، جاءني صوت صديقنا الكناس القديم من البحرين، صاحب العطر قصة قاتل الكناس قائلاً:
ه سيدي .. وصلتك الرواية..؟
قلت له بشوق:
شممت العطر، وبكره القتل..!!
ضحكنا معا وقال:
أنت سمعت الشيخ التركي يقول يجوز الضحية بدجاجة..؟
هذا شيخ متواضع.. بس ذكرتني موعدي السنوي مع أبي!
وفي منعطف خطر وخبيث سألني:
أنت ضحيت ولا بعد..؟
وفي اشارة لا تخلو من خبث، ومداعبة، وبعد معنى، وضعف، أجبت:
وأسمع صوته يتناهى إليّ طربا ضاحكا في لوعة، فسألته:
أش أخبار الكتب، حصلت صاحبك، وأفرج عنها..؟
وكأنما تذكر شيئا ورد:
أنت ما زلت تكح غبار .. أقلك بطلة نص مثالية، وتقول لي في الخمسين، بطريقتك ذي، أنت في العشرين، الكناس الأكبر محمد العلي يقول لك أصدق وأخصب بعد الخمسين، أنبل وأجمل حب!
وحينما حاولت الاحتجاج، قاطعني:
بكره عيد كل عام وأنت تنتظر بطلة جديدة!
بيأس قلت:
قل ضحية! ذي ما صارت بطلة منتظرة!
تأكدت أني أحس بها وبصوتها، في ذات اللحظة سمعته يسألني:
ليش أنت ما تحب؟
أطيب ما في قلبي!
من جديد، وبصوت صرت على يقين، أني أميزه من بين آلاف الاصوات قالت، وتأكدت مما أسمع:
ذي وعارفينها؟!
بهت.. إحساسي برعشة ممزوجة بخوف بفرح، لحظة شعرت فيها أن الدنيا لا تسعني، وصمت طويل وضجيج يملأ رأسي، بلهفة شعرت لحظتها أني تسرعت بضعف قلت:
ودي أشوفك، ليش كذا..!؟
سكين طويل يمزق جوفي، يرسم عوالم متداخلة ويجزيها إلى فتات صغيرة، صرت أشعر بظلي ممتداً فوق رأسي، لم أر ظلي يوماً بهذه القامة الممتدة إلى عنان السماء أبدا، الغبار الكثيف ممتدا الى انفي، جسد ظلي لوحة زجاجية لعوالم بديعة وبهية، نسمع بها في كتب التراث ونقرأها في الحكايات، وتوشوش سمعتها في أذني:
أنا مسافرة وبعيدة، انتظرني بعد العيد، ربما مساء ليلة الجمعة!
بكرة عيد، والموعد بعيد..!
قلت بلوعة مست جوفي، سمعتها في ضحكة حانية تقول الله يسعدك!
قال صاحبي الكناس بغرابة:
ه سيدي أنت وين رحت؟
رحت أكح غبار!
ضاحكا. وأحاول مداراة قلبي، وهول عاصفة فرحة تكاد تعصف به، فلم تكنس روايات صديقي الكناس على مدى سنوات، صفحات دروبي والمسافات الطويلة، ولا بطلاتها الجميلات مسسن شغاف قلبي، اشهد اني ارى ضوء في نهاية المسافة، وان روحي موزعة بين حالتي، اكتساب الذات والاستلاب.!
وأشرقت شمس يوم جديد، البارحة نمت منطويا على فرحة غامضة، وبي إحساس جميل وبديع، لم ارد من اي احد كان، ان يفسد علي بهجتي، سواء من داخل البيت او من اصدقائي الكناسين، او محادثات شاعري او ظلي وظلاله، كنت متوحداً في هواجس ووساوس ليس لها نهاية، لم احضر صلاة العيد التي على مسافة قريبة من بيتنا، يا لهذا العيد المميز.!
البارحة داهمت الاحلام والهواجس والوساوس ليلتي، وغرفتي وعقلي وقلبي واعصابي، كما لم تفعل ذلك في حياتي ابدا، عاصفة من السكون، ولا شيء يتحرك أبداً، غير يدي اليمنى تسحب اللباس على وجهي، بين فينة من الحلم وأخرى، عينان ملبدتان بفرحة غامضة وخوف طري، حاولت في هذا الصباح الطري استعيد شيئا من الاحلام الكبيرة ولم افلح، اغرب شيء رأيته، وسمعته وتذكرته، وتأكدت منه، قول الكناس المتجهم، صاحب الجبهبة البارزة،
الكناس الغريب، محاولا زجري:
الكلام كثير، والشوارع مليئة بالأزهار، والغبار الكثيف في كل يوم، بس أنت افتح فمك لنعرف ماذا تقول.. وهل لديك شيء مهم وجديد..؟
حقدت عليه، وبيت في هذه اللحظة بنفسي أن أشرحها، أول ما ترى عيني بطلة النص المنتظرة، ورحت بخيالي أحاول أن أتخيل صورة بطلة النص المنتظرة، أرسم لها ملامح معينة ثم ما البث أن أطرد الصورة من ذهني، مرة قلت لنفسي، لماذا أستبق الأحداث ربما تطلع صورا ولا عوراء؟ وفي ما يشبه المواساة لنفسي والتهوين عليها، قلت بطلة النص المنتظرة، بطلة روح وفكر وليس بطلة مظهر وصوت عمتي يجلجل في الصالة الخارجية مع أمي:
قيمي ولدك الخائب خليه يساعد أبوه، ويقرب له الضحية!
في هذا اليوم أريد أن أستمتع بصباحي الاول الجميل، أريد أن أتلذذ بكل همسة وبكل رائحة غادية، أريد أن أحصي البسمات في وجوه الصغار، أريد أتمتع بوعدي النبيل أريد أن أرى يوم العيد..
خرجت من سريري مسرعاً، أمي في أسفل الدرج الخارجي المؤدي إلى باب الحوش، تلف ثوبها الاحمر القطيفة في وسطها، وبيدها المكنسة الطويلة، وبالاخرى قدر طبخ كبير أراه مرة في السنة، وعلى رأسها نبتة الريحانة، من أزهار عمتي العطرية، وعمتي في مواجهتي تنتظر تقبيل رأسها في صباح هذا اليوم العتيد..
كان دم الخروف مسفوحاً في مواجهة الباب الخارجي، وصارت امي الى جوار ابي واقفة له وجها لوجه، والسكين تقطر دماً معلقة بساعده العاري، امي كسلحفاة تزحف الى الخروف المذبوح، وصرت في مواجهة ابي الذي لم اشهد كلمات دعاء الهدي والنحر التي دائما، ما تتهمه عمتي فيها بالتحيز.
قبلت رأس ابي ثم امي، ولسان الخروف ممتداً نحوي..
تخيلته يبث شكوى في صيحاته الاخيرة، ببحة ذات لكنة ساخرة:
بنحب!
هذا به صرع، ولا معه تابعة، ولا اليد التي ذبحته، ما سمت، ولا صلت على النبي!
صارت عمتي في مواجهة ابي، ردت عليها امي بسرعة اذهلتني:
يا امرأة! قلي يا الله صباح خير..
اللهم صلِّ على نبيك وخاتم أنبيائك وطولك يا روح..
رد أبي، والتفت إلى عمتي ضاحكا:
ولك حق.. ما بقي غير الغزل، وتفقدي معك الله لا يهينك، الرأس، والعين، والأذن ، والسنون.. وقبل أبي رأس عمتي، كانت أختي الكبيرة مقبلة على ساعديها ساري فتلقاه أبي وقبله، وقبلت أختي الكبيرة رأس أبي، وتلقفت من يدي أختي الكبيرة لاول مرة ساري..
لم يمض على وجوده في بيتنا شهر كامل، صغير الاطراف بصحة جيدة واسع العينين، جبهته تبدو كبيرة، ينظر في لا شيء، قبلته، بحثت في جيبي عن فلوس، أنزلته على الارض ووقف، قالت اختي بفزع:
حرام عليك ما بعد امداه يمشي..
كانت يده في يدي، والعيون تنظر إليه بإمعان وفرح، ورائحة مطر تهب، تنذر بها غيمة سوداء تكسي هذا الصباح، ولن تغسل الدم الذي بدأت مكنسة أمي بكل همة، تنثر عليه الماء وتدلقه فوقه من القدر الكبير..
مضيت إلى غرفتي في هذا الصباح، على يقظة الأحلام بأمل أن أجد بطلة نص منتظرة، تنتظرني في هذا اليوم، وحينما أدركت أن هذا لا يتحقق برغبتي، فقد أمضيت فترة طويلة أنتظرها، ولم تأت وأصل هذه اللحظة لسؤال ضروري،
لماذا لا تكون هذه البطلة التي لم أعرف بعد اسمها، وصفاتها الشكلية، أم أنها في مواصفات البطلات اللاتي عرضن أدوارهن من قبل؟، ولم يعجبني السؤال..
شعرت بظلها فصمت، كنت على قناعة فعلا بالسؤال، الذي يحرضني على الكلام.
تعبت انتظر..
المسافات في داخل المسافات تزداد تعقيداً، تطرأ لي بعض الوساوس والتخيلات في تصور بطلة النص الحلم، ولي حقي المشروع الذي لا أنا ولا غيري يستطيع مصادرته، وبنيت على بساطة هذه الفرضية قناعة بطرح أسئلة تلجم زمن حضورها المنتظر، صار الحلم عاريا وغابت الملامح والوجه والجسد، أبصرت في غاية من التحديق في الزمن المنتظر، انها بعثت لي بإشارات متتابعة علي قرأتها بشكل صحيح، ولم أستبن وجهها بعد وباقي ملامح جسدها، وفهمت في لحظة أن علي ان اغير قراءتي الخاطئة لإشاراتها، واسقطت كل عمري في الميزان، ولم تحدد ولم تتحدث بطلة النص المنتظرة صديق كناس قديم حينما راني بحالتي هذه في يوم العيد، ويعرف جزئيات من ادوار بطلات سابقات، اصر ان يخرجني بضحك متواصل..لم أكن في فراغ لقد باتت قريبة مني، شيء غريب لم استبنه بعد يثيرني، ربما الانتقائية في اختيار الكلام المناسب بدقة شديدة، وهذا يتنافى مع طبيعتي التي تميل إلى الهذيان والمزاح الحاد المتقلب، استبعدت أن يكون هذا الصمت المبين تعبيرا عن قوة وثقة، أنا الذي أنتظرها وليست هي التي تنتظرني، لم يصبح البديل في ذهني خيارا مطروحا، لقد باتت إشاراتها رموزا، تأخذني إلى مسافات أبعد لم يعد يهمني شيء، غير المضي إلى نهاية درب مسافات، تضيء فضاءه بطلة نص منظرة تعلن عن نفسها باقتضاب، واستبدت بي الحيرة، وفجأة! بدون مقدمات وضجيج ورهبة ورائحة حضورها، قالت بذات الصوت والهدوء متسائلة:
أنت تريد بطلة، ولا حكاية..!؟
تمنيت لو استطعت حينما حانت اللحظة أن أقول «معا»، قطعت علي صمتي وحيرتي، واضافت:
لابد للحكاية من رمز، وخل مسافة في البعد الزمني للحكاية المنتظرة بيني وبينك، أظنك تفهمني؟، أنا زرقاء اليمامة! أنا التي تكتب الرواية..!
قلت مموها وبي رغبة الاستزادة، وقد دونت في الصفحة الاولى مفردة استاذة:
يعني هذا اسمك.؟
لن تستطيع أن تدعوني بغير هذا الاسم، غير المناسب في البعد الزمني بيننا!
عمتي بعد محادثة تلفونية للتهنئة بالعيد مع آخرين، الذين شهدوا معها حفلة زفاف صاحب صديقي الكناس، الذي على صلة قرابة بعمتي، خرجت من غرفتها غاضبة:
اليوم الناس ما يسألون على الاصل، والفصل يا لله مشي..!
وبت الآن انظر الى ذاتي بحيادية تامة، بسيط، فوضوي، خفي، انفعالي، حزين خزناً لا ينتهي! في مواجهة بطلة رمز، «قلبك وعار فينه .. وانا زرقاء اليمامة!»،
مدخل جميل لعالم متناقض حين نصطدم ببعض فيدمر كل منا الآخر، ليس مهما اين تصبح المسافات، بقدر ما يصبح الضوء هائلا في عتمة المسافات ليضيء نهاية الدرب، وحينما وصلت الى تحديد حاجتي كما لو كنت، الآن مع نفسي في هذه الغرفة الصامتة، خفت مما أرى في المسافات البعيدة، لم يرهبني انكسار الضوء ولا سوء التأويل المطلوب لذاته، فقد تعلم القلب أن يحترس إذ أصف لزوج اختي الكبيرة، الذي جاء في نهاية يوم العيد وقد تبين حالي وحيرتي، وحالة الجنون والذهول البادية على وجهي «يا ولد وجهك يخوف!»، والآن زوج أختي الكبيرة واحد من اطيب وارق الكناسين، تماديت في وصف حالتي له ويصغي بهدوء عجيب، مما جعلني اطمئن لاستشارته في رهان أمر بطلة النص المنتظرة زرقاء اليمامة قال بحماس:
تقدر تتزوجها؟
لا أدري قلت لك عن كل هذه المسافات، والتي لا استطيع تحديدها وتحييدها، مسافات في داخل مسافات هي اطول من سكة عمري! ضحك زوج اختي بطغيان هائل وتصنع الجدية:
ليش تشغل نفسك إلى هذا الحد..؟
كأنما رتب لما يقوله:
طيب، جرب الزواج .... ما فيه شيء!
وحينما أبديت امتعاضي الشديد بهزة من رأسي، استشفيت بمهادنة صغيرة منه:
حكاية جميلة الزواج يقتلها!
تكاد يا نهار أول يوم عيد تلذذت بكل لحظة فيه، مسامات جلدي، وتسربت فيها.
|
|
|
|
|