| الاخيــرة
منذ ما يزيد على سبعين عاماً كانت أكثرية المداس ) الكتاتيب( في مدننا وقرانا عبارة عن صالة كبيرة واحدة محاطة من الداخل )بدِكاكٍ( من الطين للجلوس عليها في حلقة مستديرة يتوسطها صاحب المدرسة.
ولا تحتوي هذه المدرسة على أية مرافق لخدمة طلابها، كما أنها لا تعنى بتعليم شيئ غير القرآن ومبادئ يسيرة في الخط والحساب.
ومع ذلك فالآباء حريصون جداً على إلحاق أبنائهم بالمدرسة لعدم وجود ما هو أفضل منها، وكدليل على ذلك ان الأب حينما يحضر ابنه للمدرسة يقول للمدرس - مع غمزة عين معروفة الدلالة ولا يبصرها الابن - «لك اللحم ولنا العظم» أي استعمل معه أقسى أنواع التأديب لا التعذيب . فيما لو رأيته يرفض الدراسة أو يتغيب عن المدرسة.
أما البنت فلا نصيب لها من هذه التوصية القاسية.. فأمها هي التي تتولى ادخالها إلى مدرسة البنات )بيت المعلمة( ولا تشديد عليها في غياب أو حضور كما هي الحال مع الصبيان لأن الجميع يرون تعليمها القرآن كاملاً هو أفضلية وليس واجباً.
وغالباً ما يحمل الصبي أو الفتاة )الدخولية( معه في اليوم الأول وهي في الغالب )ريال واحد(.
********
في فترة دراستي أنا وجيلي أنشأ أحد طلبة العلم في البلدة مدرسة يقترب منهجها من المدرسة النظامية الرسمية ففيها تعلمنا القرآن الكريم بطريقة أجود ما كانت تعلمه المدرسة التقليدية.. وتعلمنا كذلك شيئاً من علم التوحيد، والفقه، والحساب، والخط،والقراءة الحرة.
********
يومي الأسود!!
ما كنت أتغيب عن المدرسة.. ولا أكرهها أبداً.. إلا أن القدر كان لي بالمرصاد ليذيقني ما أذاق غيري من عقاب لا يتفق مع مسبباته.. فقد احتاج شقيقاتي لإعانتهن في )الفلاحة( مدة أسبوع حينما أراد العامل أن يزور أهله في قرية أخرى.
قرابة آذان العصر من أحد الأيام وأنا جالس في المكان المخصص لتلقيم الابل السواني - فوجئت بطرف العصا )الشوحط( وهو يرتكز في حلقي رفعت رأس وإذا بصاحب المدرسة يقول لي )قم( بعنف، فقمت وأنا مذعور.. ولم يمهلني أن أمشي معه طبيعياً بل دفعني حتى سقطت على احدى النياق الباركة في )المنحاة( حيث جفلت ورمتني طريحاً.ومع ذلك لم يرحمني - رحمه الله -.
وأخذني إلى المدرسة التي قد خرج أكثر طلابها.. فكتف يدي خلفي ثم ربطني على احدى سواري المدرسة، ورفع رجلي محتضنتين للسارية وربطهما بحبل متين.. وصار رأسي هو الأسفل )تلك الساعة( وأخذ يجلدني بكل قوته وعنفوانه بخصلة ضخمة من الاثل الأخضر. وضربني ضرباً مبرحاً - كان هو الأول والأخير في حياتي وصراخي يعلو لعل أحداً يسمعه فيبلغ والدي ليأتي لانقاذي وفعلاً حضر أحد أقاربي بعد أن أبلغه الطلاب بما حاق بي.
ومن رحمة الله أن المعلم بعد أن أفرغ شحنة غضبه بذلك الضرب العنيف، ذهب للصلاة بجماعة المسجد المجاور للمدرسة.
وحضر والدي في الحال وفك أسري وأشهد الحاضرين على أثار الضرب العنيف الذي أحدث خطوطاً زرقاء في ظهري وعلى رجلي من خلال تحجر الدم فيها.
ومن شدة انفعال أستاذنا هذا - عفا الله عنا وعنه - أنه أخذ يلقمني من حصباء المدرسة، ليكتم صوت صياحي.. وبعض الطلاب يشاهدون ذلك الوضع ويرتعدون من خوف أن تحصل لهم مثل ذلك فيما لو تغيبوا أياماً متتالية.
بعد أن صلى بالجماعة أتى إلى المدرسة.. لا أدري هل ليزيد من الضرب أم ليطلقني؟ لكنه لم يجدني، فقد أطلق والدي - رحمه الله - سراحي وأمرني بالذهاب إلى البيت. وكاد أن يحصل بينه وبين الوالد ما لا تحمد عقباه.. ولكن الله سلم.
وفي النهاية اعتذر للوالد بأنه، كما يقول، يريدني أن أكون طالب علم جاداً، وأنه يتوقع لي ذلك في المستقبل، ما لم يأخذني عمل )الفلاحة( أو غيرها.. عما يرونه لي..
لقد كادت أن تتحقق في العبارة المألوفة في ذلك الزمان «لك اللحم ولنا الجلد» ولكن الله لطف.
إن القسوة من المعلم أو المدير قد تكون لها عواقب وخيمة على مهمة العلم والتعليم.. فليع المعلمون ذلك ولا يأخذهم الغضب والانفعال إلى ما يندمون عليه حين لا ينفع الندم.
غفر الله لمعلمي هذا ورحمه وجزاه خيراً على إخلاصه واجتهاده.
|
|
|
|
|