| مقـالات
يتوقف الإنسان عادة أمام محطات زمنية من عمره، يسترجع الماضي ويدقق الحاضر ويستشرف المستقبل، وهو في كل المحطات يشعر بالغربة.. فالطفل حين يولد يغترب عن عالم الرحم والحبل السري، ويصبح عليه الإلحاح في طلب الرضاعة بعدما كان يأتيه رزقه رغداً بلا أدنى مشقة، وقد يضطر إلى البكاء أو التباكي حتى ينال الوجبة، وما أشقى الأم برضيع شَرِهٍ لا يشبع، ولا يوفر هدوءاً بصياحه طلباً لطعام واحد لا يهضم سواه!!
وحين يبدأ إدراكه تستثيره كل الأشياء من حوله فيمقتها، لا يستثني من ذلك حتى النار يقبضها عن جهل، لكنه لا يلبث أن يتوقى بعدها حتى مما لا يوجب الحذر.وهو في هذا العمر الغض مثير لكل من حوله أيضاً بكل كلمة ينطقها مشوهة لذيذة! وبكل حركة يأتيها فطرية طريفة،!
وفي هذه السن تترسخ الأحاسيس في وجدان الطفل ويكون في حاجة ماسة إلى اهتمام الكبار، وفي سبيله إلى استثارة انتباههم يمكن أن يؤذي نفسه بحركات ساذجة خطرة! وحين يبلغ فطامه يشعر باغتراب جديد، إذ يترك ما ألفه سهلاً إلى الاعتماد تدريجياً على نفسه، حتى إذا دخل المدرسة لأول مرة شعر بمرحلة فطام آخر عن دفء بيته وأهله، وتجتهد مدارس الأطفال في تنظيم برامج استقبالهم برحلات ونزهات ونشاطات أخرى مع أن هذه البرامج في حاجة إلى إعادة نظر.
ولا يزال الطفل مغترباً يطلب العلم في مراحله، فإذا بلغ مبلغ الرجال شعر بالغربة مرة أخرى عن عذرية الطفولة وبراءتها. ويبدأ صراع الغريزة بين الإعلاء والإسفاف، ويبلغ الاغتراب مبلغه في هذه المرحلة، إذ يقف الشاب عاجزاً أمام تغيرات )غريبة( وأسئلة كثيرة حيرى، يحدث بها نفسه ولا يجرؤ على سؤال الكبار.. رغم أن مسؤولية الكبار هي تعليم أولادهم هذه المسائل ولكن بطريقة )اللمس(.
فإذا انتهى الشاب من تعليمه وانخرط في سلك العمل شعر مجدداً بالاغتراب عن اللا مسؤولية، إذ عليه حينئذ أن يمتثل قول الشاعر:
ما حك جلدك غير ظفرك فتولَّ أنت جميع أمرك
وبالزواج يغترب الإنسان مرة أخرى إلى الأبعد.. إذ عليه والحال كذلك، لا أن يتحمل مسؤوليته وحده، بل ومعه شريكة الحياة وما تهديه من ولد، فإذا لم )يوافق شنٌ طَبَقه( فتلك غربة أخرى أنكى وأمرّ، أن يحيا الإنسان تحت سقف واحد مع رفيق لا يرى ما يراه ويعشق ما يبغضه هو! ولا يزال المرء مغلولاً بالغربات المتتالية والمتجمعة حتى يبلغ عتبة الأربعين، فيقف عندها متأملاً، شاعراً بداخله رغبة التطهر حتى عن اللمم، فتلك سنُّ التكليف من رب العالمين إلى خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وهي السن التي عبَّر بها الشاعر معلّلاً ترفُّعه عن الدنايا بقوله «وقد جاوزتُ حدَّ الأربعين».
ثم يعتل السمع ويتعَشّى البصر وتتساقط الأسنان وتتلف الآلة تباعاً، بينما السنون تمضي سراعاً، كأنها حبات مسبحة بين أصابع شابة تسبّح ربها بهمّة.
ثم تأتي الستون وفيها يقول شاعر الأحاسيس:
مرّت الستين والشايب طفل
توي أدرس في كتاتيب الحياة
وإذا كان خالد الفيصل بكل ما رزقه الله من علم وافر وما وفقه إليه من عمل ناجز يقول بهذا، تُرى ماذا يمكن أن نقول نحن؟!
لكننا يمكن أن نتفق على رأي واحد لا خلاف عليه، خلاصته أن تقوى الله والجد في الحياة يمثلان الطريق القويم لرحلة الإنسان على الأرض، قبل أن يحين الأجل، وقبل أن يقف بين يدي ربه يوم الحساب، وبالله التوفيق أولاً وأخيراً.
*وكيل إمارة منطقة عسير المساعد
|
|
|
|
|