| مقـالات
مقولة ابن خلدون المشهورة: لا يفلح العربي إلا خلف نبي.. وهاذه المقولة من ابن خلدون لم تكن في كل ما مضا حتا الآن ظاهرة تاريخية، بل هي حتمية؛ فقد ضاقت بلاد الحجاز بالقحطانيين؛ فرحلوا إلا اليمن، وكونوا حضارة أبرز ما فيها أنها حضارة معمارية، ولم نرث عنهم بعد علما مدونا مكتوبا قبل الاسلام.. وتوالت هجرات العرب منذ انفجار السد من اليمن والحجاز ونجد؛ فكانت لنا امارات عربية حضارية كالمناذرة والغساسنة، وكان لنا سموق في الفلاحة والنسيج والملاحة، ولاكن لم نرث حضارة وثقافة مدونة، ولم نحظ بدولة تجمع العرب، ودعك من الامتداد خارج النطاق العربي!!.
وجامعة الدول العربية تقرر هجرة نصف مليون عربي من العلماإ، ولعل العدد أكثر من ذلك؛ لأني قرأت أكثر من مقالة تجيش بالمرارة من جراإ هجرة العقول والأدمغة العربية.. وفيهم المبرزون في العلم المادي، ولاكن أين مجالهم عند بني جنسهم؛ فأحمد زكي تحول من التخصص العلمي إلا رئيس تحرير مجلة العربي، والباز القدرة العلمية الهائلة ماذا أفاد منه العرب؟..
وآخر من علماإ الذرة من عرب المغرب قتل في أسبانيا بتدبير حاقد، وأستاذنا معالي الدكتور محمد عبده يماني تحول من التخصص العلمي إلا الصحافة والكتابة عن سيرة المصطفا العطرة عليه أفضل الصلاة والسلام.. وهاكذا وهاكذا.. فلما كانت الانطلاقة العربية خلف نبي منذ محمد صلا الله عليه وسلم، وتوالت الانطلاقة خلف إرثه ظلت لنا دولة عمرها ثلاثة عشر قرنا، وورثنا رقعة ممهورة بالعروبة مِنحةً من الإسلام، وورثنا رقعا تدين لأمتنا العربية بالولاإ باسم الاسلام وإن كان اللسان أعجميا.. والفتا العربي ذكي، قوي العارضة، نيِّر الحجة، سريع البديهة..
زاد الإسلام ذكاأه (بالذال) زكاأ (بالزاي)؛ فاستوعب حضارات وثقافات الشعوب من يونانية ورومانية ومصرية وهندية وحبشية، وصبها في مختبر ذكائه ومهارته، ونفذ من أغوارها بطابع ممهور ببنانه الذي لا يشبهه بنان فكراً وفناً وعملاً من جهة الادارة والنظام والعمارة والطب، وكوَّن علماً مدوناً نواة لكل ابداع حديث؛ فلما ضعف عسكرياً، وتكالبت عليه الأعداأُ: وجدنا علمه المدون النواة علا نحوين: تراث تناولته الأيدي البربرية بالإتلاف، وتراث ادَّخرته أوربا في خزاناتها؛ فكانت بداية انطلاقتهم في العصور الوسطا.. وغلبة الأمية الكتابية والثقافية لا تكون ألبتة والعربي خلف نبي في حياته الواقعية؛ ولهاذا يشارك البرابرة في عملهم؛ وبهاذا السبب كتب ابن خلدون وهو العربي الصميم بمرارة عن العمل الأمي العربي حتا اتهم بالشعوبية؛ لما لاقاه من آثار الهلاليين وحلفائهم في المغرب العربي.. وعن اقتسام العلم العربي بين إتلاف البرابرة وهيمنة أوربا يقول الأستاذ حامد مصطفى:(تكثر المخطوطات العربية في مكتبات أوربا كثرة تدعو إلا الالتفات إلا هاذه الثروة العظيمة من أدب العرب وتاريخ العرب وعلوم العرب.. ومهما كانت الوسائل التي اجتمعت بها هاذه الثروة في خزائن الكتب الغربية فإن هناك ما يبرر(1) الارتياح إلا انتقالها إلا تلك البلاد؛ ذالك أن النهضة العلمية التي قامت في أوربا علا أثر اختفاإ نور الحضارة العربية كانت مأخوذة بالحرص علا أسباب النهضة ومقومات الثقافة؛ فوجدت في هاذه الكنوز العربية ما يغذي الحركة العلمية،
ويألِّف عنصراً مهماً من عناصر البحث فأقبلت عليها درساً واهتماماً، وحاطتها بكل أسباب العناية والحفظ.. هاذا علا حين كانت العقلية العلمية في الشرق علا الضد من ذالك: فتن وقلاقل وغزوات وانشغال بهاذه الحوادث عن العلم والأدب والفنون؛ فهجر العلماأ والأدباأ مواطنهم، وفقدوا خزائن كتبهم بسبب هاذه الهجرة (2)، واغتصبت منهم أحياناً؛ فأحرقت أو رميت في الأنهار.. وما أصاب خزائن الكتب الغربية لم يكن إلا بقايا هاذه الكتب التي بعثرت في الأرض؛ فأخذت من أيدي الصبيان والجهلة(3)، أو استخلصت من لهيب النيران.. وربما كانت أول البلاد التي فقدت ثروتها من الكتب العراق وسوريا، وأحسنها حظاً في هاذا مصر.. والحوادث السياسية والاجتماعية هي تُأَوِّلُ أسباب فقر ذينك البلدين من الثروة العلمية وحسن حظ هاذه منها.. علا أن الأيام قد عادت بنا إلا الأمل بإمكان العثور علا بعض الكتب القيمة التي لم يكتب لها حظ الطبع والانتشار)(4).
قال أبو عبدالرحمان: وما ذكرته من حرفة محدودة لدا العرب المتحضرين قبل الاسلام كان مستهجناً عند عموم العرب، ومادة هجاإ.
والمنطلق الأصيل لحضارة العربي لما كان خلف نبي وهو انطلاق يمنع الإلحاد والعبثية والبطالة، وجعل الماديات قيمة وغاية انطلاق برهن عليه بصفته ظاهرة طبيعية، وأثنا عليها في حضارتنا العربية مفكرون كثر من أمثال أوغست كونت، وآينشتاين، وإميل درمنج، وغوستاف لوبون (5).. وشهد أليكس لوزون بالانسجام التام بين تعاليم القرآن والقوانين الطبيعية، وهاكذا شهد جوته بأن تعاليم القرآن عملية مطابقة للحاجات الفكرية(6).
قال أبو عبدالرحمان: عندي من الاستقراإ للنص الشعري، والمطابقات العلمية ما هو حجة في ذاته، ولاكن أردت شهادة أمثال هاأُلاإ الخواجات؛ لقطع دابر التهمة بأن هاذه الحقائق شعور مجرد.. يقول الأستاذ الدكتور إبراهيم صالح المعتاز (وليس فخراً أن نقول: إن علماأ المسلمين كانوا أول من أسس جامعة علمية كان مقرها في فاس ببلاد المغرب، وأنهم أول من حاول الطيران، وأنهم برعوا في الكيماإ والجبر واختراع الأرقام واكتشاف الدورة الدموية، وبرعوا في علم التشريح ووضع قوانين علم الضوإ في الفيزياإ وغيرها.. بل إنه من الحق والانصاف أن يقال هاذا، وأن يقر للمسلمين أنهم صانعوا هاذه الحضارة العلمية، وروادها الأوائل، وأنهم قد وضعوا الأسس العلمية المنطقية الراقية التي لم يعرفها علماأُ الغرب وغيرهم إلا بعد قرون.. بل إن سائر مكتشفات اليوم ومخترعاته كان للمسلمين مساهمة أولية مهما صغر حجمها في دفع حركة الاتجاه العلمي نحو البحث عنها، والكشف عن مجاهيل كثيرة في طريق إيجادها وتطويرها)(7).
ويقول الأستاذ الدكتور محمد عمارة:(وإذا كان دمار مكتبات بغداد والشام في ظل الاجتياح التتري قد ذهب بكثير من كنوز تراثنا ومنه التراث السياسي.. وإذا كانت مخطوطات التراث العربي والتي يزيد (8) عددها عن ثلاثة ملايين مخطوط (9) لا تزال موزعة في مكتبات المعمورة، دون أن يكون لها فهرس واحد يحصرها، ويعيِّن علا التحديد الدقيق حجم التراث السياسي فيها: فإن باحثاً واحداً هو الدكتور نصر محمد عارف قد أحصا في مصادر التراث السياسي الإسلامي أكثر من ثلاثمأة مصدر لم يطبع منه سوا سبعة.. وهو يعترف بأنه لم يبلغ عُشر معشار الاستقراإ لمصادر هاذا التراث)(10).
قال أبوعبدالرحمان: أما أصحاب الفحيح من الثقوب (من الطائفيين، والنحليين، والمليين، فيتجاهلون كل ذالك، ويخلطون مظاهر الشظف البدوي برفاهة الحضارة بعد ذالك مع كثير من الإفك؛ ليسقطوا كل إيجاب علمي وثقافي وحضاري؛ فمن منظري مجلة شعر حليم بركات، وقد حدد هوية شعر الحداثة كما تراه مجلة شعر بصياغة قانونية دقيقة جداً هي: (يرفض الشاعر الرمل، ويتجه نحو البحر).. لماذا؟.. (الرمل إشارة لما في حضارتنا من جمود وتقولب وسلفية).. هذا المتشاعر يدعو إلا تخطي الرمل والقبيلة والخيمة والجراد والتكايا والوبر والتسري والسجاد ومجامر الأفيون والخناجر والسيوف والخلاخيل والوشم والعنقاإ وسطيح والرخ والسلطان والخليفة والإمام والأمير.. إلخ.. إلخ!!.
ويوسف الخال من وادي النصارا غرب سوريا (وهاذا القطر عربي صميم العروبة، ومعقل من معاقل الإسلام اكتسب عروبته بإسلامه، وكان مركز الخلافة الإسلامية منذ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما)؛ فماذا يقول الخال عن هاذا المجد العربي؟.. يقول في الدارة السوداإ:
*دارتي السوداأُ ملآ بعظام.
عافها نور النهار.
من يواريها الترابا.
علها تبعث يوماً.
تدفع الصخرة عنها.
****
العصافير بنت أعشاشها
حيثما حطت بها ريح الشمال.
وأنا في هاذه الدارة وحدي.
جاثماً كالهمِّ كاَّلعنة كالخوف.
علا صدر الجبان.
جاثماً كالموت في البرهة في كل مكان.
****
قبضتي كلَّت وأظفاري براها.
الزحف من دار لدار.
قال أبو عبدالرحمان: أين نجد هاذه الأظفار؟.. الجواب عند الخال إذ يقول:
*منذ ما سمَّرتُ في الحرف مصيري.
منذ ما أطفأت الريح علا الشط مناري*.
ويستمر الخال في إسقاطه التاريخي المتجني إلا حضارات قومية بائدة ليست واقعاً حياً في تراث الإنسانية اليوم، وإنما هي وجود مستعجم يُعرف أنها وجدت فحسب.. يقول:
( ها نَيْنَوا.
فاجأني الدليل صائحاً: ها نينوا.
ومرة عرفت في النقوش.
****
لا تنعق البومة في دياره.
ولا يحوم حوله الغراب.
****
وفي دمشق أبصرت عيناي سنحريب جاثماً.
****
والسر في الجذور.
ويقول في قصيدة الحوار الأزلي:
*أأموت علا الدرب ولا ندري؟.
توارينا عن الأبصار أكفان.
من الرمل غبار ذره الحافر.
في ملاعب الشمس.. ..
ووراأ البحر المتوسط أمم كلها تشرب من البِأْر المهجورة؛ ولهاذا كان البحر المتوسط هو الرابطة المأقتة بين الرمل وما وراأ البحر؛ حتّا يكون الذوبان النهائي.. والبرهان علا ذالك النبوأة للخال:
*تصبَّر صبر أيوب ولا تهلع.
إذا ما استفحل الشر:
صليب الله مرفوع علا رابية الدهر.
وفي الشط منارات مَتَا ضاأت.
من الصخرة ماأ يجرف الرمل.
إلا البحر.. .. .. ..
إن التطلع للبحر واعتباره مخلصا: يعني الشوق لمن وراأ البحر من أهله..
أعني ملة الطائفيين.. يقول الخال:
*وفي النهار نهبط المرافأَ الأمان.
والمراكب الناشرة الشارع للسفر.
نهتف يا.. يا بحرنا الحبيب.. يا.
القريب كالجفون من عيوننا.
نَجِيْأَ وحدنا.
رفاتنا الوراأ تلكم الجبال آثروا.
البقاأ في سباتهم ونحن نُأْثر السفر.
****
نصيح يا مراكب.
يا سلماً يرقا بنا.
يصلنا بغيرنا.
****
وقبلما نهم بالرحيل نذبح الخراف.
واحداً لعشتروت.. واحداً لأدونيس.
واحداً لبعل ثم نرفع المراسي.
الحديد من قرارة البحر.
ونبدأ السفر.
هللوا يا.. وإلا لقاإ، والله المستعان.
****
الحواشي:
(1) لم يرد في لغة العرب (بَرَّرَ بمعنا سوغ.. ولاكن ذالك من النمو بالمجاز؛ لأن برَّره بمعنا جعله براً.. أي حقاً وخيراً وصدقاً؛ فهاذا هو التسويغ.
(2) من ذالك أن أسامة بن منقذ 584ه فقد في طريقه من مصر إلا الشام أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة حامد.
(3) قال أبوعبدالرحمان: وهاذا ما حصل لمكتبة الشيخ محمد نصيف رحمه الله، ولقد صوَّرت نسخته من إبطال القياس لابن حزم من شستربتي، وقد زرته في بيته وأحالني إلا المكتبة لأبحث عنها.. وهاكذا حصل للمكتبة المحمودية، وقد ذكرت نموذج ذالك كتاب ابن رسول عن دعوا كتابة رسول الله صلاَّ الله عليه وسلم التي أحال إليها الكتاني في التراتيب الإدارية وهي لا توجد بها الآن!!.
(4) مجلة الرسالة عدد 733 في 21 يوليو عام 1947م ص 818.
(5) انظر مجلة العلوم والتقنية عدد 56 شهر شوال عام 1421ه ص26.
(6) المصدر السابق 27.
(7) المصدر السابق ص29.
(8) الواو قبل التي لحن؛ لأنه لا عطف بين الصفة والموصوف.
(9) قال أبوعبدالرحمان: هاذا الإحصاأ يحتاج إلا توثيق.
(10) مجلة البحرين الثقافية عدد 25 يونيو 2000م ص129 عن كتاب من مصادر التراث السياسي الإسلامي دراسة في إشكالية التقويم قبل الاستقراإ والتأصيل/ طبعة المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن عام 1994م.. قال أبوعبدالرحمان: الوارد في لغة العرب التقويم بالمعنا الأعم، واستعمل المعاصرون التقييم لمعنا أخص، وهو تحديد القيمة؛ فاشتقوا الفعل قيَّم من الاسم (القيمة)، وذالك من أحوال النمو الصحيحة، إلا أن هاذا التصريف الصحيح خطأ ها هنا؛ لأنه لا يريد خصوص القيمة.
|
|
|
|
|