| شرفات
هناك مسرحيات خالدة في سجل الأدب العالمي مثل: «البخيل» و«طرطوف» و«مريض بالوهم» و«الأزواج الخائنون». كل هذه الأعمال الشهيرة عليها توقيع رجل واحد فحسب، هو موليير مؤسس المسرح الكوميدي في فرنسا أو «الكوميدي فرانسيز».
لم يتعلم موليير فن المسرح في معهد أو جامعة، وإنما خاض تجربة المسرح كمغامرة بكر، وبكل ما لديه من خبرج بالحياة وطبائع البشر. وخلال ثلاثين عاماً تبلورت هذه الخبرة ونضج موليير ممثلا ومخرجا ومقتبسا ومؤلفا، ليقدم للمسرح الفرنسي ما يزيد عن أربعين مسرحية، ترتقى بفن الفكاهة والكوميديا من مجرد التهريج الرخيص إلى معالجة القضايا الاجتماعية ورسم الشخصيات المكروهة على نحو كاريكاتوري.
كان المسرح بالنسبة لموليير هو السكن والصديق والحب الأول والأخير، فمنذ صباه كان يقف في السوق القريبة من دارهم ويشاهد الفرقة المسرحية المتجولة، وعندما التحق بكلية كليرمونت لدراسة البلاغة والعلوم الإنسانية انضم إلى فرقة التمثيل بالكلية.
وفي مرحلة لاحقة درس القانون بكلية أورليانز ويقال انه اشتغل محاميا فترة من الزمن، لكن الثابت انه عمل بعد تخرجه مع أبيه في تجارة العاديات والسجاد الخاص بالقصور الملكية. وهي مهنة كانت تدر دخلاً كبيراً على الأب الذي كان يطمح في أن يستمر ابنه من بعده في إدارة محل السجاد والأثاث. لكن توق موليير إلى المسرح جعله يتحين الفرصة، إلى أن بلغ سن الرشد وسُمح له بتسلم نصيبه من ميراث أمه المتوفاة. وعلى الفور اعتزل تجارته وكرس حياته للمسرح.
ولكي يندمج في حياة المسرح الخيالية قرر موليير أن يتخلص من آخر رابطة تربطه بحياته السابقة وأعلن تغيير اسمه من جان بابتست بوكلان إلى موليير. فهذا الاسم الأخير يليق به كمؤلف وممثل مسرحي يبدأ حياته الفنية عام 1643 مع عشرة من أصدقائه الهواة.
خلال خمسة عشر عاما عاش موليير مع فرقته هائما في الفنادق الصغيرة المزدحمة وفي الحانات القذرة، أو يرتحل بفرقته ليجوب قرى الريف ومدن الأقاليم عسى ان يوفر لهم قوت الكفاف. في البداية نجح في استئجار أحد ملاعب التنس ليستخدمه كمسرح يقدم عليه رواياته، وأحيانا كان يستأجر عربات النقل التي تجرها الخيول. وظلت الفرقة تنتقل من مسرح إلى آخر، ومن فشل إلى فشل، علاوة على الخلافات التقليدية مع السلطات المحلية.
وفي خاتمة المطاف أفلست الفرقة بعد عامين من العمل الشاق والمتواصل، وأودع موليير السجن وفاء لدين تاجر شموع، مما كانت تستعمل في الإضاءة! لكن السجن لم يثن عزيمته في أن يصبح صاحب فرقة مسرحية، وبالفعل نجح في عام 1652م أن يصبح مديراً للفرقة يقتبس ويؤلف لها الروايات.
آنذاك كانت الفرق المسرحية تبحث لنفسها عن دعم وحماية من قبل أحد الأمراء أو الموسرين، فاستغل موليير نجاح مسرحيته «الطائش» في مدينة ليون، فاصطحب بطلة الفرقة مارلين بيجار وهبطا إلى باريس يبذلان المساعي لدى شقيق الملك كي يضع الفرقة تحت حمايته ورعايته.
وفي عام 1658 وبعد خمسة عشر عاما من البؤس والشظف والمتاعب أصبحت هناك فرقة ناجحة تحمل اسم «دوق أورليانز» وتحظى بحمايته ورعاية شقيقه الملك لويس الرابع عشر، حتى لقد سمعوا له باتخاذ إحدى قاعات القصر الملكي مسرحا دائما لفرقته.
كان النجاح يغري بنجاح آخر ومزيد من الشهرة والثروة، وفي غمرة العروض المتوالية تأجل كثيراً إعلان زواج موليير من حبيبته وبطلة مسرحه مارلين بيجار إلى أن توفيت فجأة... كانت صدمة قاسية، وأدرك موليير لأول مرة أن الشعر الأبيض بدأ يغزو شعره، وانتابته مشاعر الندم والإحساس بالذنب لأنه لم يتزوج المرأة التي أحبته وشاركته بؤس الحياة سنوات طويلة.
هذا الإحساس بالذنب كان يتجه شيئا فشيئا إلى مشاعر مودة تجاه الأخت الصغرى لمارلين وتدعى «أرماند». هل كان يحبها لأنها صورة من حبيبته الراحلة أم أنه تورط معها كما يتورط بعض الكهول مع الحسناوات الصغيرات؟ مهما كات الإجابة، قرر موليير أن يتزوج أرماند، وأعطى بهذا الفرصة لحاسديه ومنافسيه كي يعملوا على تشويه سمعته، فزعم بعضهم أن أرماند ليست شقيقة مارلين وإنما ابنتها! وذهب بعضهم إلى أنها ابنتها من موليير نفسه)!!(
ومن الغريب أن هذه الشائعات ظلت تلاحق موليير حيا وميتا، وحتى بعد مرور نصف قرن على وفاته تقريبا حين عثر على وثيقة زواجه بين محفوظات بلدية باريس فاتضح بما لا يقبل الشك ان أرماند كانت الشقيقة الصغرى لمارلين.
هذه الشائعات التي طاردت موليير مضحك الفرنسيين جعلته يعاني من الكآبة والشعور بالاعياء. ورغم انه كان سعيداً بزوجته الشابة ونجاح فرقته إلا ان ثمة أشياء تقض مضجعه ولا يعرف لها تفسيراً. انتقل بزوجته الى منزل جديد في شارع ريشيلييه وذات يوم استيقظ من نومه مجهداً يحس بوساوس وكآبة لايدري لها كنها.. حاول أن يخرج ليسرّى عن نفسه، لكنه أحس بإعياء شديد عاقه عن الخروج واضطر إلى ان يلازم فراشه.
لم يكن قد مضى على وفاة مارلين - حبه الأول سوى عام واحد. عام من الكآبة والمقاومة. وفي الرابعة عصراً تحامل على نفسه وقصد الى قصر اللوفر حيث كانت فرقته تقدم مسرحياتها، واتخذ قراره بأن يمثل دوره كالمعتاد ولا يظهر لهم شيئا مما يعانيه. وفي غرفته الخاصة لاحظ أعضاء الفرقة أنه لم يكن سعيداً، وانه ظل يضع «الماكياج» وقتا أطول من المعتاد. والحقيقة انه كان يبذل جهداً كبيرا ليبعد عن وجهه مظاهر الألم والتعاسة ويضع مكانها قناع المهرِّج الذي كتب عليه ان يضحك الجماهير وقلبه يتمزق من الألم.
ظل متماسكا يؤدي دوره بإتقان وينجح في إضحاك جمهوره إلى ان سقط فجأة على خشبة المسرح وسط ضحك الجمهور الذين ظن أن ما يحدث جزء من الدور المكتوب، حمله مرافقوه الى المنزل وبقيت المسرحية تعرض كأن شيئا لم يكن، كما بقيت زوجته تمثل دورها في العرض، بينما هو مستلق على سرير المرض يتناول كسرة خبز بعد إلحاح مرافقيه.
وفي التاسعة مساء تدفق الدم غزيراً من فمه ورفض أن يأتوه بطبيب، وطالبهم بأن يحضروا القس، ولكن الليلة كانت عاصفة ممطرة ورفض قسس الكنيسة المجاورة لمنزله ان يخرجوا في هذا الجو الممطر لكي يباركوا مهرجا وآثما كبيرا! وعندما جاء شقيق زوجته بقس من كنيسة أخرى كانت روحه قد فاضت إلى بارئها. ولا أحد يدري ممن أضحكهم طيلة ثلاثين عاماً كم الآلام التي عاناها في ساعاته الأخيرة فحسب.
شريف صالح
|
|
|
|
|