| الاخيــرة
كتاب التوفيق للتلفيق لأبي منصور الثعالبي حوى ثلاثين بابا شمل كل باب أروع ما استطاع المؤلف وضعه في بوتقة قصيرة، تحوي النثر والشعر والحكمة فظهر الكتاب جامعا لمتع شتى في مواضيع مختلفة، فدعونا نبحر في شواطئ بحره، لننقل شيئا مما قد يوافق مقتضيات العصر.
ففي باب أوصاف وخصائص الأشياء، يقول أبو عثمان الخالدي في رد أوصاف القيم الى أوصاف المحب، والتلفيق بينهما:
أما ترى القيم يا من قلبه قاسي
كأنه أنا مقياسا بمقياسي
قطر كدمعي وبرق مثل نار هوى
في القلب مني وريح مثل انفاسي |
وطلب بعض العزاب من دلالة ببغداد امرأة يتزوجها، فقالت له، لك عندي امرأة كأنها طاقة نرجس، فتزوجها فوجدها عجوزا، فقرّع الدلاّلة على كذبها فقالت: والله ما كذبتك، أما تراها تجمع أوصاف النرجس في بياض شعرها، وصفرة وجهها، وخضرة ساقها؟.
ومن لطائف الكتاب، قال أحمد بن صالح بن شهرزاد في جارية كاتبه، رد أوصافها الى أوصاف آلات كاتبها: كأن خطها اشكال صورتها، وكأن مرادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحاظها، وكأن مقطفها قلب عاشقها.
وفي التلفيق بين الآثار العلوية، ذكر قصة قتيبة بن مسلم، لما أشرف على سمرقند ، فاستحسنها جدا، فقال لأصحابه شبهوها، فلم يأتوا بشيء ، وقالوا: الأمير أحسن تشبيها لها، فقال كأنها السماء في الخضرة، وكأن قصورها النجوم اللامعة، وكأن انهارها المجرة.
وكتب بن عباد في وصف متكبر، كأنما امتطى السّماكين، وانتعل الفرقدين، وتناول النيرين، وملك الخافقين، واستعبد الثقلين.
ومما قيل في التلفيق ، وبما يتفق مع بعض دول وقتنا الحاضر، قول احدهم عن رجل أكول: يحاكي حوت يونس في جودة الالتقام، وثعبان موسى في سرعة الالتهام ودعا بعضهم على بعض فقال: سلط الله عليهم طوفان قوم نوح، وريح قوم عاد، وصاعقة قوم ثمود.
ومن كلام أبي العيناء قال قلت: ما تقول في صالح بن سيرازاد؟ فقال: يتلهّى بخروف ويتغدى بفصيل، ويتعشى بغريض، ويثب على فريسته وثوب النمر، ويراوغ عن خصمه مراوغة الثعلب.
وفي ضرب المثل بما يستهان ولا يبالى به: ما عسى ان يبلغ به عض النملة، وقرص القملة، ولسع النحلة، ووقوع البقة على النحلة، ونباح الكلب على السحاب، ما الذباب وما مرفته.
وللصابي من رسالة: مثل فلان كمثل الفراش المتهافت في الشهاب، والذباب المتهالك على الشراب.
وفي التلفيق بين الطيور، قول الشاعر في صدق القطاة، وكذب الفاختة.
وقد كنت تصدق صدق القطاة
فقد صرت أكذَب من فاخته |
ذلك لأن القطاة لها صوت واحد لا تغيره، وهو حكاية اسمها تقول قطاقطا، والفاختة تقول في الربيع: هذا أوان الرطب، فيضرب بها المثل في الكذب.
قال بن المعتز: العقل بلا أدب كالشجرة العاقرة، ومع الأدب كالشجرة المثمرة وقال عبد الحميد بن يحيى: العلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.
ووصف بعضهم رجلا بليغا فقال: دره التاج، وواسطة العقد ونقش الفص، وانسان العين، وبيت القصيد وأول الجريدة، وفارس الكتيبة.
ووصف الخوارزمي رجلا فقال: درّه من درر البشر لا درر الصدف، وياقوته من يواقيت الاحرار، لا من يواقيت الأحجار.
ووصف أبو بكر بن مكرم رجلا شريف الأصل وضيع النفس، ولفق بين المحاسن والمساوئ فقال: هو من الطاووس رجله، ومن الورد شوكه، ومن الماء زبده،ومن اللجين خبثه، ومن النار دخانها، ومن الدار كنيفها.
أقول: ألم يجمع ذلك الكتاب شيئا من التوفيق للتلفيق حتى يحسن منظره، ويطيب مطعمه، ويفهم معناه من يفهمه، دون حاجة الى اسهاب ممل، أو ايجاز مخل؟ كأني به كذلك قد أفاد، وأتاح لغيره الإفادة.
|
|
|
|
|