| مقـالات
لا يزال خطاب الحداثة العربي يعبر عن علاقاته الثقافية في غير بنية تاريخية واجتماعية، فإذا كان خطاب الحداثة لم يفلح في عملية التغيير والاصلاح الاجتماعي والثقافي منذ القرن التاسع عشر فذلك لتبنيه لرؤى خطاب آخر، لم يلحظ فيه، هوية خطابه، ولا مرتكزات بنيته الاجتماعية والانسانية، ولا طبيعة المنحى الحضاري لثقافته. وكذلك لم يكن سياقه يلبي حركة التطلع الاجتماعي أو يعكس العلاقات المتداخلة من تاريخية واجتماعية في خطابه وما يمثله من ايديولوجية ومنحى سيكلوجي واجتماعي في حركة الحاضر، بل جاء كردة فعل، نتيجة لانبهاره بالحضارة الغربية وما ولدته فيه من صدمة جعلته غير متوازن مع متطلبات حركة التغيير والاصلاح وما يتطلبه خطاب الحداثة من معالجة هادئة تستهدف أولاً إزاحة المعوقات الحقيقية في تركيبته الثقافية والاجتماعية. ان محاولة تطبيق الحداثة كما هي في الغرب مشروع يمثل قطيعة إبستمولوجية مع التراث وشخصية الامة التاريخية والحضارية، أحدث ردوداً من الفعل إزاء مشروع الحداثة في الوطن العربي ومن ثم أخفق في تحقيق النهضة الثقافية والاجتماعية، وهذا يجعلنا نعيد تقييم تجربة مشروع الحداثة وأخذ مفارقاتها على مستوى بنية الثقافة الاجتماعية في الاعتبار، كما لاحظ ذلك بعض المفكرين في سياق عموم نظرتهم لمشاريع التحديث في الوطن العربي والتي لم تفض إلى تغيير تلك البنى الاجتماعية والثقافية، بل ظلت تنتج في أشكال رديفة وهجينة لم يستهدفها التغيير في العمق وإنما أطفت عليها بعض مظاهر التغير الشكلي، حيث لا تزال عوامل التخلف الاجتماعي والثقافي موجودة وتعبر عن نفسها في غير مظهر اجتماعي وثقافي وإنساني، وبالطبع ليس الغرض ممارسة جلد الذات لجلد الذات أو إزاحة المحاولات التي جاءت في سياق مشروع الحداثة، وإنما توسيع خيارات التغيير الثقافي والاجتماعي والبحث عن أكثر من مقوم ومن معادل موضوعي يساعد على تصويب مشاريع التغيير الثقافي في مجتمعاتنا العربية وكذلك ليست هذه دعوة للتخلي عن الانجازات التي تمت في مضمار النهضة الثقافية العربية بل مراكمتها وغربلة بعض معطياتها الثقافية والاجتماعية وتفتيت الجانب الاستاتيكي فيها، كبنية ايديولوجية لا تزال تشكل ثابتاً من ثوابت التغيير الاجتماعي والتي هي استنساخ لتلك الاطروحات التي تولدت في إطار تشكيل قطيعة مع ماضي الثقافة العربية والتخلي عن خياراتها الحضارية والانسانية وتطبيق مبادئ النظرة الابستمولوجية والعائق الابستمولوجي على الثقافة والشخصية الاجتماعية العربية دون أخذ الفوارق والاعتبارات الثقافية في هوية الخطاب الثقافي العربي. وتعتبر التطورات التي حدثت في العقدين الاخيرين من القرن العشرين ولا سيما في مجال التنظير الايديولوجي والثقافي بدءاً من محاولات إدوارد سعيد في كتابيه الاستشراق، والثقافة والامبريالية، وما أحدثته من خلخلة لخطاب الحداثة الغربي وفضح لبنيته الإمبريالية إلى كتاب فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والانسان الاخير وانتهاء بكتاب هنتقتون صراع الحضارات وما شكلته هذه الظواهر من بداية تداعٍ لتلك المشاريع، سواء ما عناه سعيد في كتابيه آنفي الذكر في سياق نقده للخطاب الغربي المعرفي وتقديمه كنموذج لتوحد المعرفة بالسلطة وبالتالي هذا مؤشر على إخفاق هذا الخطاب وعدم قدرته على التوحد في تجربة إنسانية واحدة تعكس قدرته على تكريس قيمة التعددية الحضارية دون إلغاء هويات الخطابات الثقافية الاخرى، وهذا ما كشفت عنه كتابات فوكياما وهنتقتون من ان الحداثة الغربية حداثة مركزية تستبعد الآخر كقامة حضارية وثقافية وإنسانية، وبالطبع لايجوز أخذ بعض هذه المشاريع وسحبها على الثقافة الغربية كبنية مشروع واحد، ولكن هذا يعكس كحد أدنى التفكير المشترك الذي يلمس في علاقات التواطؤ بين بعض الانتلجنسيا الغربية وبين بنية التفكير السياسي على مستوى السلطات الغربية كما بينه إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والامبريالية، وهذا ما يجعلنا ألاّ نجرد إرادتنا للمعرفة من النظر بأكثر من بعد الى الآخر- والكشف عن نظامه الايديولوجي لازاحته وإحلال نظام جديد من العلاقات يمارس تعميق الصلات المعرفية والثقافية والاجتماعية دون أن يسلبنا إرادتنا ويقرر عنا ما يجب وما لا يجب في مشاريعنا الثقافية .
وهذا ما افضت إليه بعض القامات المفكرة في ثقافتنا العربية والاسلامية، من بروز خطاب يرفض الذوبان والانصياع لنزعات التفكير المتصلب والصلد والذي يريد ان يفرض، ان يمنح الجميع من رؤيته وإنشاءاته وبلاغاته الايديولوجية والتي ساهمت ذي بدئ في إحكام قبضتها على شخصيتنا وهويتنا الثقافية والاجتماعية، فلا يجوز ان تبقى المعايير التحديثية كما كانت في القرن التاسع عشر عند بداية النهضة العربية دون ملاحظة التطورات الادرماتيكية في خطاب الحداثة العربي والاسلامي والتي تتمثل في ملامحه الجديدة وفي عطائه الإنساني على مستوى خطاب الثقافة الانساني، حيث لم يقف الخطاب الشرقي كبنية عربية وإسلامية موقف المتفرج مما يحدث على مستوى التحولات الثقافية التي يشهدها خطاب الثقافة اليوم في العالم، فالتقدم بمشروع حوار الحضارات لم تكن خطوة من باب المصادفة بل تعكس هذه الخطوة مدى الارهاصات الثقافية والانسانية التي تحققت في مضمار بنية الخطاب العربي والاسلامي على مدى العقود السابقة، فهذا التوثب الثقافي يراد له أن يتواصل ويتكامل مع ما تم في أروقة خطاب الحداثة دون أن يلغي صلته به، حيث تعتبر الصحوة الثقافية العربية اليوم والاسلامية تعبر عن يقظة تحتاج الى من يلبي تطلعها عبر حدثنتها وإبراز مشاركتها وحضورها في صياغة مشاريع التغيير الاجتماعي والثقافي لا أن نتعامل معها على أنها متلقية ومستهلكة للتنظيرات وما يملي عليها من إرادة مؤسسة لخطابها الثقافي، حان الاوان لتأسيس علاقة جديدة تحفظ مكانة الانسان في مجتمعاتنا وتجعله حاضراً كقامة اجتماعية دون ان تلغي فيه نرجسيته الثقافية وقدرته على فعل التغيير والاصلاح الاجتماعي، حيث ان التغيير إذا لم تكن له قاعدة اجتماعية تتبناه وتكون لاعبة رئيسية فيه، يصبح مشروعاً أقرب الى الطوباوية، وهذا ما ارتكبته الحداثة العربية عندما تحول مشروعها الى مشروع للنخبة، لم يلامس الشرائح الاجتماعية الواسعة ولم تتفاعل مع معطياته الثقافية والاجتماعية والانسانية، بل أصبحت هذه المسائل موضوعات للمصادرة والتدمير والتفتيت ومحاولة إزاحتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية منيت بخيبة أمل، ولنقل الحقيقة ليس فقط لأن المجتمعات العربية تعيش تكلساً فكرياً وجموداً ثقافياً وتخلفاً اجتماعياً وإنما طوباوية التحديث وفلسفته الغربية التي تنبني على قطيعته المعرفية لبنية الثقافة العربية، ومحاولة تأسيس حالة مغايرة تماماً مع كل التراكمات والمشاريع الثقافية والتاريخية، هي التي أفضت الى فشل مشروع التحديث ووصوله إلى آفاق مسدودة في المجتمعات العربية، دون أن ننكر العوامل الاخرى من سياسية واجتماعية وسيكلوجية في بنية الواقع العربي، وكذلك الظروف التاريخية المعقدة والتي تتداخل كأسباب داخلية وخارجية لها علاقة مباشرة بتخلفنا الثقافي والاجتماعي. هناك بعض الدراسات التي أجريت على المجتمعات العربية والتي يغلب عليها جانب التنظير أكثر مما هي دراسات تطبيقية والسبب في ذلك سياقها السوسيولوجي الغربي التي هي في الاساس دراسات قد عملت على المجتمعات الغربية وقد تم تحويلها كبنية سوسيولوجية في دراسة ظاهرة التخلف الاجتماعي دون الاخذ في الحسبان الفوارق الانثروبولوجية والمجتمعية بين المجتمعات التي تمت في الاساس فيها وبين المجتمعات التي طبقت عليها هذه الدراسات مع بعض التعديلات التي لم يخرجها من كونها تعبر عن نسقيات علمية ومنهجية تعكس رؤية ثقافية واجتماعية متضاربة مع كثير من الخصائص الثقافية والاجتماعية للمجتمعات الشرقية وعلى وجه الخصوص المجتمعات العربية، فمن الملاحظ على بعض الدراسات استخدامها لتلك المنهجيات واعتمادها على بعض النماذج التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات في الولايات المتحدة الامريكية والتي كانت تدفعها دينامية التفاؤل في إمكان إحداث تحول نحو الحداثة، بعكس الدراسات العربية التي لم تطف فارقاً كبيراً على طرق تطبيقاتها لمناهجها في سبر الحالة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية مع ما يمتلكها من روح ملئها التشاؤم والنظرة القاتمة لمستقبل الثقافة العربية، فواضح من المقولات التي احتوت عليها بعض الدراسات مدى إرادة التفكير الايديولوجي المحمل بردود الفعل، ومحاولة استخدام بعض الادوات الحفرية لفهم ظاهرة التخلف الاجتماعي من المنظور الذي كان سائداً في الغرب في تلك الحقب التي شكلت مراحل التحول التدريجي نحو المجتمع الحديث، الشيء الذي يستبعده التفكير الايديولوجي العربي عند دراسته للمجتمعات العربية حيث لا يرى إمكان تغيرها أو جدوى تحولها المرحلي. ويمكن أن نأخذ كتاب المفكر الفلسطيني هشام شرابي) البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر( كنموذج لهذه الدراسات، ويمكن تلخيص نظرته إجمالاً في الجدول التالي:
المقولة الحداثة النظام البطركي )التقليدي(
المعرفة الفكر/العقل الاسطورة / الايمان
الحقيقة علمية/ نقدية دينية / تعليمية
اللغة تحليلية بيانية
النظام ديمقراطي/ اشتراكي سلطنة / بيروقراطية
التركيب الاجتماعي الطبقة العائلة / القبيلة/ الطائفة
ولم تقف مقاربة شرابي في بنية الحاضر الراهن بل طالت جميع الصيرورات الثقافية والاجتماعية والتاريخية واعتبرتها بنى عديمة الجدوى والفائدة فلا بد من تشكيل قطيعة معرفية معها، حيث ان المعرفة وخطاب التراث برمته ما هو إلا بنية من الاساطير والتفكير الخرافي ونسق مليء بالاعتقادات الخاطئة والايمان اللاعقلاني، وأن عمليات التلقين وطرق التعليم الديني الساذج هي أبرز مصاديق الحقيقة الثقافية والاجتماعية والتي تتماشى جنبا الى جنب مع بنى النظام السياسي والاجتماعي البالي في اشكال من السلطنة والبيروقراطية وما تمثله من امتداد عائلي وقبلي وطائفي في تركيبة النظام الاجتماعي كشكل رديف لما هو مماثل له في مرجعية التراث والذي يمثل دينامية التخلف والانحطاط الثقافي والاجتماعي حيث لم تستطع الشعوب العربية ان تتجاوزه كما فعل الغرب عندما شكل قطيعة ابستمولوجية مع تراثه الديني والتاريخي. وهذا الكلام ليس نسفاً لأطروحة شرابي بقدر ما هو رفض للبنية الاستاتيكية في التفكير والاعتقاد الحداثوي الذي يشمل لماماً كل ما هو إيجابي وسلبي في بنية المجتمع والتراث. أو الذهاب إلى حد المغالاة في أن التخلف ما هو إلا نتيجة للتراث العربي والاسلامي حتى في أنصع مرجعياته الثقافية والاجتماعية، ويبقى كرديف مشوه يعكس دائماً صورة القديم ولا غير، ويصبح الحل هو في هذه الراديكالية الثورية والذي يكمن في اعتقاد أصحاب هذا النهج في ممارسة القطيعة مع التراث في كل نماذجه والتماهي مطلقاً مع الحداثة المعاصرة، كحل للخروج من أزمة التخلف الثقافي والاجتماعي، ولهذا ينبغي على خطاب الحداثة ألاّ يكرر هذه الاخطاء ولا يبتعد في نظرته التغييرية عن خيارات التغيير الثقافي والتي تتمثل في إرث التراث العربي والاسلامي وفي مقدرة هذا التراث في مد حركة الحاضر والامتزاج فيها، وذلك من خلال إعادة قراءته خارج سياق التفكير الايديولوجي والتبعية الثقافية. فالعقم ليس في ارتباط الشعوب العربية بتاريخها، بل في تخلي مشاريع التحديث العربية عن الاستمرار في تطوير علاقتها بالتراث العربي والاسلامي وعدم العدول عن تلك الاستراتيجيات التحديثية الرامية الى تشكيل قطيعة مع كل ما يمت بصلة إليه، ورفض حركة التراكم فيه، بل والاصرار على نسفها وتدميرها، باعتبارها بنية من الصياغة، تراعي فقط كما يقولون، مصلحة بعض القوى التي تتمتع بنفوذ تقليدي على علوم التراث العربي والاسلامي، وهذا في اعتقادي وهم نفسي وعزلة تتعمدها بعض التوجهات التحديثية لتبرر نظرتها السوداوية والمتشائمة من التاريخ والتراث، فإذا كانت هناك بعض القوى التي تعكس تصلباً إيديولوجياً في علاقتها بالتراث، وتعوق حركة التغيير والاصلاحات الثقافية والاجتماعية، فهذا لا يعنى انعدام الامكانية في التغيير والتحديث الثقافي، من هنا يجب عدم تبني موقف واحد يجعل الجميع في خندق واحد ومن ثم يصبح الحكم نهائياً، وتكون النتيجة افتعال التخاصم، ليس فقط مع تلك الفئة، بل مع التراث كثقافة عربية وإسلامية وهكذا تغذي المواقف باستمرار السلوك الدكتاتوري في هذا النهج التحديثي الذي يدعى الديمقراطية وهو يمارس إقصاء الآخر واستهداف تصفيته وإخراجه كلياً من ساحة التغيير الثقافي والاجتماعي وفي المقابل تظهر القوى الرجعية لتستفيد من هذا الصراع بين مختلف هذه القوى لتنسف في وقت واحد كلا الطرفين، من حداثيين، وإصلاحيين معتدلين من الطرف الآخر.
من هنا يجب ألا يكون التغيير فعلاً ورد فعل من الآخر، وينبغي ان تكون عمليته استجابة طبيعية لحركة الواقع وما تطلبه معطياتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية، لا ان تصبح تعبيراً ايديولوجياً عن التبعية الثقافية، بل يجب ان تعكس علاقات من التكافؤ الثقافي والانساني ضمن نظام فكري منفتح يستجيب للتطلعات الثقافية والاجتماعية ويعمل على خلخلة الجمود في النظام الثقافي والاجتماعي دون نسف شبكته وصلاته التراثية والتاريخية التي تعتبر مؤسسة لخطابه ووجدانه الانساني والثقافي والاجتماعي.
|
|
|
|
|