| مقـالات
التعليم من اشرف الوظائف التي يتلبس بها المرء، وهذا الكلام لا يحتاج القائل به الى ان يبرهن على كلامه فكل الناس مجمعون على ذلك، ويكفي المدرس فخرا ذلك الحديث النبوي الشريف الذي يعد تاجا يلبسه كل مدرس، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: )إن الله وملائكته وأهل السموات والارض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلُّون على معلم الناس الخير(، وما استحق المعلم هذه المنزلة الا لما له من دور كبير جدا في تنشئة الجيل المسلم، لا ينتشر الاسلام الا عن طريق العلم والتعلم واول المعلمين محمد صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة لكل من بعده، من حياته تستقى الدروس فجدير ان تكون طريقته منبعا لأنظمة التعليم ومرجعا لها، لأنه لا يتصرف من عند نفسه )إن هو إلا وحي يوحى(.
وما زال المعلم ينال تلك المكانة اللائقة به عند كل فئات المجتمع خلال التاريخ الاسلامي، المعلم هو المقدم في كل الامور له الاحترام والتقدير، لا يحتاج الى ان يوضح للناس ذلك، فالناس قد عرفوا ذلك.
ما وصل شخص الى أي منصب من المناصب فلابد انه كان يوما خاضعا للمعلم يتلقى منه التوجيه والنصح، بل ما اظن ان إنسانا يصل الى ما يريد دون ان يكون طريقه في ذلك معلماً كان قدوة له، وجد فيه النصح والارشاد، فلا غرو اذن ان يكون المدرس هو الطريق الموصل لكل شيء بدءا من ذلك المعلم الذي علم الانسان امور دينه التي يصل بسبب التمسك بها الى اغلى المطالب وهي الفوز بالجنات يوم القيامة، وانتهاء بذلك المعلم الذي جلس الانسان يوما ما يستمع الى ما يقول حتى وإن لم يؤثر في حياته.
العلاقة بين المعلم وتلميذه منذ القدم علاقة تقدير واحترام، علاقة مبنية على رد الفضل لاهل الفضل، علاقة ابن مع والده، علاقة منصوح مع ناصحه، وكانت هذه العلاقة مثل الحبل المتين الذي يربط بين هاتين الفئتين من المجتمع: فئة المعلم وفئة المتعلم، يزداد هذا الحبل تماسكا كل ما ازداد تمسك الناس بهذه العلاقة وزرعها بين ناشئتهم كما ينقص تماسك هذا الحبل حين تجد هذه العلاقة تساهلا من الناس لها وتقليلاً من شأنها لأي سبب كان.
لكن هذا الحبل المشدود اذا انقطع فلا شك سينقطع بسببه امور كثيرة، لن يجد الأب من ابنائه احتراما، لأنهم ضيعوا احترام الأب المعنوي فلاشك سيصلون الى الأب الحقيقي، اذا انقطع هذا الحبل المشدود وهو مبدأ الاحترام بين المعلم والمتعلم فسيؤثر هذا بدوره على ثقافة المجتمع كاملا إذ كيف يتقبل الطالب من شخص لا يرى فيه أي موجب لقبول كلامه، وكل الأمور قد يتهاون فيها إلا ان يصل الأمر الى مسألة ضعف ثقافة المجتمع لأن ضعف ثقافة أي مجتمع بداية لتفككه وضياعه، والتاريخ شاهد على مثل هذا الكلام فكلما زاد اهتمام الناس بالعلم والتعليم تجد الأمة متماسكة مترابطة، وبالعكس كلما ضعف اهتمام الناس بالعلم والتعلم لأي سبب كان تجد تلك الامة متفككة، لا يربط بينها رابط الاسلام والبلد فقط وقد لا تجد لهذين الرابطين أثرا فعليا في حياة الناس بسبب ضعف الوعي لديهم.
العلاقة بين المعلم والمتعلم في هذه البلاد وفي هذا الوقت كانت مبنية على مبدأ الاحترام والتقدير المبدأ الذي ينبغي ان تكون عليه، وتبرز هذه العلاقة من عدة جوانب:
1 من الناحية النفسية: فالمعلم يجد تقديره بين الناس في المجتمع، كان الناس قديما في هذه البلاد يقدمون المعلم على غيره من الناس حتى المعلم في الأعمال المهنية يقدم على غيره من الناس ولا اظن انني بحاجة الى التمثيل على ما أقول.
2 من الناحية المادية: ويبرز هذا الجانب في الاهتمام الذي لقيه المعلم من ولاة الامر من وضع حوافز ومميزات للمعلم لتكون حافزا له على البذل والعطاء، وتقديرا لما يبذله المعلم من جهود هي في النهاية رفعة للبلد وإسهام في ازدهاره.
3 من الناحية الاجتماعية: ويجد الانسان ذلك في القديم في حث الآباء ابناءهم على ان يكونوا معلمين، بل قد يصل ببعضهم ان يمنع ابنه من الالتحاق بأي قطاع غير قطاع التدريس، وبغض النظر عن موافقتنا على هذا العمل إلا انه يبين لنا المكانة التي كان الناس يضعونها للمعلم.
كان الواجب أن تستمر هذه العلاقة وهذا الحبل مشدودا غير أن هذا الحبل بدأ في الضعف شيئاً فشيئاً إما من قبل مسؤولي التعليم انفسهم او من قبل الناس عامة وكلا الامرين يصبان في شيء واحد وهو ضياع مكانة المعلم في المجتمع، ولعلّي هنا اسير مع تلك السبل التي اتخذناها وكان عاقبتها في النهاية ضعف العلاقة بين المعلم والمتعلم:
من مبدأ الرحمة والشفقة ومنعا لصور من الهمجية رأى القائمون على التعليم منع المدرس من ضرب الطالب، وما أظن شخصا وقعت يده على هذا القرار الا وهو قد نال أيام طلبه شيئا مما منعه اليوم، لست هنا اطالب بإعادة السماح للمدرس بضرب الطالب ولكن اقول: هذه القضية هولت اعلاميا ولاحظوا معي هنا دور الاعلام هولت اعلاميا حتى أُبرز المعلم وكأنه جلاد او ظالم، حتى صار المعلم يجد من طلابه من يقول له: يا استاذ الضرب ممنوع.
كان تنظيم الدرجات له دور بارز في التأثير على اجبار الطالب على احترام المعلم اذا انعدم الدافع الذاتي على الاحترام، فأوجدت درجات خصصت لسلوك الطالب في الفصل مع استاذه ومع زملائه، ولكن بدأت هذه الدرجات تقلص شيئا فشيئا حتى صار معلوما لدى كل طالب ان المعلم لا يملك من الدرجات شيئا.
زيادة على كل ما ذكرت وما لم اذكر انفتح الناس على الاتصال بالعالم الخارجي من عدة طرق مهما حاولنا صدهم عنها فما عسانا ان نفعل؟ ولكن كان الواجب ان يواكب ذلك زيادة اهتمام في جانب ربط علاقات المجتمع بعضهم ببعض، ولكن لم توجد او بدأت بالضعف.
هذه بعض الجوانب التي فعلت ولعله دون نظر الى العواقب فماذا كانت النتيجة؟ هي ما يلي:
منها: الطالب الذي لم يحصل في الثانوية على تقدير عال سيتجه فورا الى الكليات التربوية التي تؤهله لأن يكون مدرسا، الطالب الجامعي الذي تخرج من الجامعة سيبحث بشتى الطرق عن الوظيفة التي يرغبها فإذا ضاقت به السبل فسيذهب في النهاية الى وظيفة التعليم، وكأننا نقول بلسان حالنا: التعليم وظيفة من لا وظيفة له وهذه الامور تصب في النهاية الى ضعف الوعي الثقافي في المجتمع، ونسينا ان وظيفة التعليم هي من اخطر الوظائف في المجتمع، ويكفي ان تتصور ان الاب قد لا يمكث مع ابنائه خلال اليوم الواحد ساعات متواصلة، بينما المدرس يجلس مع هذا الابن ما يقارب ست ساعات يوميا.
العلاقة بين المعلم والمتعلم ضعفت جدا حتى تجرأ الطالب على استاذه، وفقدت تلك العلاقة التي كانت موجودة فيما سبق، فلا عجب اذن ان يعتدي الطالب على استاذه لانه لم يجد رادعا يردعه ولم يجد تلك المنزلة التي كانت ينشأ عليها الصغار وهي مبدأ الاحترام من المتعلم لمعلمه، وليس هذا الكلام متعلقا بسن معينة بل اذكر أنني شاهدت طالبا في السنة الثانية الابتدائية يعني عمره سبع سنوات يعتدي على زميله خارج مبنى المدرسة، وكان بقر به احد المدرسين فزجره عن ذلك فقال هذا الطالب على صغر سنه يخاطب استاذه: انت داخل المدرسة الاستاذ فلان اما خارج المدرسة فأنت فلان بن فلان وأنت وعامل النظافة سواء، وقد هالني جدا ما رأيته من هذا الطالب، وتصورت كيف سيفعل اذا كان في الثانوية او الجامعة؟! واظن انه ما قال مثل هذا الكلام الا حينما لم ينشأ على مبدأ الاحترام.
مع وجود مثل هذه الحالات: وهي اعتداء الطالب على استاذه لم يوجد من العقوبات ما يكون رادعا لها ولما شاكلها، بل اني اعجب كثيرا من فعلنا نحن، فإنا بدل ان نستنكر مثل هذه الوقائع صرنا نصفق لها من خلال وسائل الاعلام، اظن ان نشر مثل هذه الوقائع والحالات هو من تشجيعها وتكبيرها وقد تكون الحادثة سهلة يسيرة ولكن مع هذه الهالة الاعلامية التي صاحبتها صارت كبيرة، وزيادة على ذلك فإننا جرأنا الطالب على استاذه بتعريفه مثل هذه الاحداث، نعم لن نسد آذان الناس ولن نغمض عيونهم، ولكن اين دور الاعلام؟!
فبعد هذا كله اقول: ان وجود وقائع قد نسمعها بين وقت وآخر عن اعتداء طالب على استاذه لا يجعلنا نقول بأنها اصبحت ظاهرة، ومن قال ذلك فقد ظلم نفسه وظلم الناس، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: )من قال هلك الناس فهو أهلكهم(، ومهما يكن فإن وجود مثل هذه الامور داخل مبنى المدرسة او خارجه يلزمنا جميعا ان نتحرك للعلاج سريعا قبل ان ينفصم الأمر، والعلاج لا يكون إلا بمشاركة المجتمع كله، وأظن انني سأجد من يقول من مثقفي مجتمعنا: ان السبب في ذلك هو مناهج التعليم، مناهج التعليم التي صارت علكاً يلوكه كل من أراد الكلام عن الخلل الثقافي في المجتمع، ان مناهج التعليم نالها من اللوم والتقريع ما لا تحتمله، وكنت اظن ان مناهج التعليم ليست بهذه السهولة التي تستوجب لكل انسان ان يتكلم فيها.
إنني أقول: هناك مقولة تقول: أعطني معلما ناجحا أعطيك طالبا ناجحا، وخذوا مثالا على هذه المقولة لو أننا أردنا بناء بيت وأتينا بأجود انواع الطوب وأنفسها واغلاها، ثم اعطيناها شخصا لا علم له بالبناء فلا شك أنه سيبني لنا بناء فاسد المظهر والمخبر، وفي المقابل لو اتينا بشخص هو من أهل هذا الفن وأعطيناه طوبا متواضعا فلا شك سيبني لنا بناء يغطي فيه بجمال صنعته على كل ما قد يجد من عيوب.
ان المعلم هو أساس البناء فمتى ما أحسن اختياره ثم أحسن الاهتمام به فلاشك سنجد أمة واعية.
ولكن حين يصل الأمر الى ان يتربص الطالب بأستاذه خارج المدرسة فإني اجدها فرصة لأرسل هنا نداء من معلم يكافح في مجال التعليم الى وزير الداخلية سدده الله فأقول:
الأمن هو أغلى ما يطلب المرء وحين لا يأمن المدرس على نفسه من غوائل الطلاب، فلا يستغرب منه أن يسير في الشارع وكأنه غريم يتخفى عن طلابه حتى لا يؤذى.
الإعلام كان له دور كبير في ضياع هيبة المعلم من نفوس طلابه أما يكون له دور في بناء ما هدمه؟!
أقرب الناس شبهاً بالمدرس هو رجل الامن اذ كلاهما يحرس البلد فهذا يحرسه فكريا وذاك يحرسه أمنيا، والاعتداء على رجل الأمن عقوبته مضاعفة لأنه اعتدى على المنصب الذي يحتله رجل الامن ثم هو اعتدى على رجل من بني جنسه، أفلا يحق للمدرس ان يجد مثل ما يجده رجل الامن؟!
إنني لا اقول ان هذا الامر صار ظاهرة، ولكنه لا يعدو أن يكون حالة فردية لابد أن تقع هنا وهناك، ولكن المرض ما دام في بداياته والمصابون به قليل فإننا نستطيع تحصين بقية الناس بالتحصينات المانعة من استفحال المرض اما اذا ما اصبح المرض ظاهرة منتشرة بين الناس والمصابون به كثير فإن علاجه سيكون صعبا، ثم قد نعالجه ولكن تبقى آثاره بارزة في المجتمع، إننا لا ينبغي ان ننتظر حتى يكون الأمر ظاهرة حتى نبادر الى علاجه فالظواهر صعب علاجها.
هذه نفثات معلم يرغب في إصلاح مجتمعه، ويحكي واقعا، لعلنا نصل في النهاية الى ما يرضي الله ورسوله.
معلم في وزارة المعارف
|
|
|
|
|