| مقـالات
من المعروف أن أحد الأهداف التربوية العامة هو تكوين الانسان المتكامل من جميع جوانبه المعرفية والوجدانية والمهارية، ولعل المناهج من أهم وسائل التربية لتحقيق هذا الهدف، إضافة الى طبيعة العلاقة بين المعلم والمتعلم. ويقتضي تكوين الإنسان المتكامل تركيز الاهتمام بالجانب الإنساني في شخصية الانسان الذي تساهم في تطويره المواد الدراسية سواء العلمية التطبيقية او الأدبية.
يلاحظ في الفترة الراهنة ونتيجة التطور التقني الهائل اتجاه في التربية نحو التركيز على العلوم التطبيقية لما لها من فائدة مباشرة في مجال العمل، وإهمال للمواد الأدبية، الأمر الذي يحرم الأجيال الصاعدة من الرؤية التاريخية والفلسفية والأدبية للأشياء، مما يشكل عائقا أمام تطوير الخصائص الانسانية للإنسان، وتكوينه المتكامل. هناك آراء متعددة حول دور مواد الدراسة المختلفة الأدبية منها والعلمية في تحقيق إنسانية الإنسان وتطويرها، وحول آثار التقنيات السلبي في هذا الجانب.
لم يظهر التمييز بين الثقافة العلمية والأدبية إلا في أواخر القرن الماضي، حيث ظهر اتجاه نحو التخصص نتيجة تسارع الاكتشافات العلمية وشمولية المعرفية التقنية المعقدة، التي تتحدى قدرات الإنسان، وتم تكريس هذا التمييز في المدارس فقسمت المواد الى مواد دراسية أدبية ومواد علمية تطبيقية مما سبب شللاً ثقافياً نصفياً. ولم يبق الأمر ضمن هذا الإطار بل تجاوزه الى اتهام المتخصصين بفرع معين سواء أكان أدبياً أم علمياً أصحاب التخصص الآخر بعدم المعرفة، حيث يدعي المتخصصون في العلوم الأدبية ان هذه العلوم تساهم أكثر من غيرها في تطوير القدرات النقدية، والتفكير الحر، والمحاكمة المنطقية، والإحساس بمناجاة الفكر الإنساني، بينما يتهم المتخصصون بالعلوم التطبيقية الدراسات الأدبية بأنها عبارة عن لغو كلامي ولا فائدة ترجى منها. لعل من المفيد القول إن هذه الاتهامات تجافي الحقيقة لأن العلوم الأدبية لا تحمل خصائص أو ميزات معينة تجعلها أكبر أثرا في تحقيق إنسانية الإنسان مقارنة بغيرها من فروع المعرفة، إذ ان هذا الأمر لا يرتبط بعناوين الموضوعات الدراسية او بفروع الدراسة والتخصص، وإنما تتعلق بتوافر شروط معينة ويمكن ان نذكر منها:
1 استخدام طرائق التدريس المناسبة: من المعروف ان أهمية المواد الدراسية وفائدتها في تحقيق إنسانية الإنسان لا تنبع من المحتوى او المضمون فحسب بل من خلال طريقة التعلم لأنه في أحيان كثيرة يتم التركيز على عملية اختيار المحتوى وترتيبه منطقيا الخ وتغفل عملية تدريسه .
ليس مهما ان نفكر بالسؤال ماذا نعلم فقط بل كيف نعلم ايضا؟ أي ان نفكر بإثارة شعور الرغبة لدى المتعلم فيما يتعلمه، الأمر الذي يساهم في تطويرهم بشكل متكامل، اضافة الى ان أهمية المادة لا ترتبط بعدد الساعات المخصصة لتدريسها او بعدد المدرسين الذين يقومون بتدريسها وإنما بمدى مساهمتها في تحقيق مستويات عليا من التفكير لدى الطلبة ، وهذا الأمر مرتبط بطريقة تعلمها التي تكفل إثارة شعور اللذة والفضول العلمي. فليس المقصود مثلا من تدريس أعمال نجيب محفوظ وأحمد شوقي وغيرهم هو تعريف المتعلمين بإعراب الفعل الماضي او المضارع وإنما إثارة روح المتعة والبهجة في نفوسهم، وتكوين خصائص انسانية معينة لديهم، وإلا فلا معنى من تدريس الأدب، وليس الهدف من تدريس التاريخ حفظ أسماء الشخصيات ومواقع الأحداث، وأسماء الفئات المتصارعة فقط مما يحولها الى مادة صعبة وجافة ويولد اتجاهات سلبية من قبل الطلاب نحوها، رغم انها أكثر المواد إمتاعاً. لذلك لا بد من التركيز على دور المدرس وطريقة التدريس التي يستخدمها لما لها من أثر كبير في تحقيق الأهداف المنشودة وبخاصة فيما يتعلق بتحقيق إنسانية الإنسان، إن الكثير من المدرسين يتناسون ان من واجبهم توليد الرغبة لدى المتعلمين بالمادة الدراسية ويفترضون انها موجودة سلفا، لذلك يلجئون الى الأسلوب الخطابي في تدريسها مستخدمين مصطلحات معقدة وغامضة، ويكون هدفهم الرئيسي هو التباهي والتفاخر أمام الطلاب بالمعرفة والقدرة وكأنهم يقدمون أبحاثا في مؤتمرات علمية متناسين مستويات الطلاب ومتجاهلين رغباتهم وبالتالي ينعدم التواصل. إن مهمة المدرسين الأساسية هي توليد دوافع الاكتشاف لدى الطلبة، وتزويدهم بالوسائل الأساسية التي تساعدهم على الوصول الى اكتشافات ذاتية، أي بتعبير آخر تعريفهم بنتاجات المعرفة الإنسانية وتدريبهم على اكتشاف معارف جديدة، الأمر الذي يساعدهم على تحقيق ذواتهم وبالتالي إنسانيتهم.
2 العمل على إحداث توازن بين المواد التطبيقية والأدبية: إن التطرف فى الانحياز نحو مجال معرفي معين يسبب خللاً خطيراً وثغرات كبيرة في معارف المتعلمين، الأمر الذي يعيق تحقيق إنسانيتهم المتكاملة. ويلاحظ ان الناس في غالبيتهم يستمتعون بالأحاديث التي تتناول الأدب والتاريخ ويشعرون بالملل والتذمر عندما يكون موضوع الحديث الرياضيات او الفيزياء والمواد العلمية الأخرى، وبالتالي يساهمون في تكريس الشلل النصفي المعرفي الذي ذكرناه آنفاً.
3 الاستخدام الواسع للثقافات الحديثة: يرى البعض أن الآلات الحديثة تؤثر سلباً على إنسانية الإنسان، ويتناسون أهميتها في تحقيق التواصل الإنساني وتوسيع آفاقه وتطوير المعرفة الإنسانية أي أنها جاءت خدمة مباشرة للإنسان، ولكن إذا ما استخدمت لغايات غير انسانية، فلا تتحمل الآلة سبب ذلك وإنما الإنسان نفسه فهي لا تلغي إنسانية أحد ما.
4 تعزيز دور العقل: إن أهم ما يميز الجنس البشري هو العقل ، وتغييب دوره يحرم الإنسان من الاستمتاع بالأبعاد الإنسانية للمواد سواء أكانت علمية تطبيقية او أدبية ، لذلك ينبغي ان تقدم التربية نماذج لاستخدامه بشكل سليم من خلال تطوير قدرات الإنسان على التجريد والاستنتاج والبرهنة المنطقية الخ.
نستنتج مما سبق ضرورة التركيز على المعرفة الشمولية وأهمية التربية واستخدام الثقافات الحديثة وتكريس سلطة العقل من أجل تحقيق ذلك، لما لذلك كله من أهمية في تحقيق إنسانية الإنسان.
|
|
|
|
|