| أفاق اسلامية
خلق الله تعالى الانسان ووهبه صفات جسمية أخرى سلوكية وشخصية، والصفات الأخيرة هي الصفات التي يرتبط بها الانسان بمحيطه وبيئته ومجتمعه، والناس من حوله، لأنها تشكل التعامل مع بني البشر، وهذا التعامل يختلف تبعا لظروف عديدة يأتي على رأسها طبيعة الانسان، وكلما اقتربت هذه الطبيعة من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كانت الأصدق والأعمق والأقوى أثراً، والأجمل في كل المعايير، وبها يعلو شأنه ويحترمه الآخرون، وكلما ابتعدت تلك الطبيعة عن الفطرة التي أرادنا الله عليها، تدنت بصاحبها وأفسدت عليه حياته وعلاقاته بالآخرين وأوصلته لحالة من السوء لا يحسد عليها - والعياذ بالله -.
ويأتي على قمة السلوكيات التي تنطوي تحت ظل الفطرة السليمة يأتي «التواضع»، تلك الكلمة التي تعني أكثربكثير مما توحي، فهي تعني السلوك القويم والطباع الحميدة، وهي ليست أبداً تنكيسا للرأس وليست ذلا ولا خنوعا ولكنه التواضع الذي يسمو ويرقى يرتفع بنفس صاحبه الى الأعلى، إنه شموخ بالمعنى الحقيقي،ولكن الانسان الذي لا يفتأ يلوث ويدنس جماليات الحياة وبساطتها يأبى إلا ان يلطخ أسمى السلوكيات بأعماله وتصرفاته غير الجميلة فيبتعد عن التواضع ويركب سفينة التكبر، والعجرفة، والتسلط، والابتعاد عن العباد، وشتان ما بين التواضع، والتكبر، فهذا هو الروعة بعينها وذاك هو السوء بكل ما يحمل من شرور وصفات دنيئة.
التواضع صفة مرغوبة عند كل البشر، ولكن لا يقدر عليها الجميع لأنها تحتاج لنفس عالية، وعقل رزين، وفكر نير سليم، أما التكبر فهو صفة بغيضة ويقدر على تقمصها الكثيرون، ولذلك يندر أن يمر يوم ولا ترى من حولك متكبرا أو شخصا أدار ظهره للتواضع..!!
في الحياة أناس لهم موقعهم المميز وعليهم تتوقف أمور كثيرة، خصوصا أولئك الذين يتبوؤن موقع المسؤولية والرعية من خلفهم، هؤلاء خطرهم أكبر إن ساروا بتيار معاكس للتواضع - والعياذ بالله - وذلك بحكم موقعهم ومكانتهم، والخطر أشد وأكبر عندما يستولي التكبر على شخص عالم، فالعلماء قدوة البشر، والقدوة يجب ان تتحلى من الصفات جميلها، ومن الأخلاق أحسنها، ومن الأعمال أخلصها، ان القدوة المتكبر هو كارثة على مجتمعه وأمته وأبناء بلده، وبنفس الوقت هو بنظر الأعداء مطلوب مرغوب لأنه سند لهم يحقق لهم ما يريدون تحقيقه بأبسط السبل.
لماذا يرمي الإنسان التواضع جانبا، ويتجه صوب التكبر؟!
سؤال يجب ان يراودنا وأن نجد له تفسيرا وتأويلا، خصوصا حين نرى من حولنا بعض الناس الذين أنعم الله عليهم، وأفاض عليهم من خيراته فنسوا اخوانهم.. بل وابتعدوا عنهم، ووجدوا ضالتهم بسلوكيات وبأنداد آخرين فكونوا صداقات جديدة وتخلصوا من الأوفياء الصادقين، وبخلوا حتى بالسلام على زملائهم الفقراء.
إن الغنى ابتلاء وامتحان من الله، والله قادر - في أي لحظة - أن يحيل الغني الى أفقر من فقير، والفائز حقا من وعى هذه الحقيقة، واستغل فترة غناه بالأعمال الطيبة وبروح التواضع والسخاء والكرم والجود فبنى لنفسه ذخيرة وموازين طيبة عند الله سبحانه:)فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى(، والتعيس من بدأ يتخبط بماله وفضته وذهبه ذات اليمين وذات الشمال وابتعد عن أهله وأحبته تكبرا وزورا وظلما، فكانت موازينه خاسرة، وتجارته مصيرها الزوال والبوار. )وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى. وما يغني عنه ماله إذا تردى(.
ويحضرني في هذا المقام قول الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والشامخات رؤوسهن فوارغ |
نعم هذا قول صحيح فالسنبلة ذات المحصول الوفير ثقيلة ولها انحناءة متواضعة إن تأملتها، أما السنبلة التي ترفع رأسها متكبرة فإنها لا تحوي من المحصول شيئا، إنها فارغة حقا، وكذلك بنو البشر، فإن المتواضع منهم هو ذو العقل الراجح والفكر السليم والتجارة الرابحة في ميزان رب العالمين، أما الذي يمشي متكبرا مختالا وبطراً ولسان حاله يقول: ليس على الأرض من يعادلني، فهذا فارغ لاثمر فيه ولا يرتجى منه خير.
ومما لا شك فيه ان خطر عدم التواضع يكون أكبرعندما يمس أواصر القربى، لأنه عادة ما يؤدي لقطع الرحم، وهذا خطر لا تحمد عقباه على الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، وإذا كان التواضع مطلوبا على مستوى الأمة، فإنه مطلوب أكثر بين الأقارب ومع الوالدين على وجه الخصوص )واخفض لهما جناح الذل..( الآية، فرضا الوالدين من رضا الله، وكيف ينال عبد رضا ربه وهو عاق لوالديه متكبر عليهما.
إن التواضع سمة تمنح الانسان انسانيته الحقة وتميزه عن ذلك الذي بقي له من الانسانية الاسم ليس إلا، وتحول قلبه وعقله لوحش، وأصبحت نفسه حجارة صماء وأرضا جرداء.
وبعد.. فإنه من الواجب على كل منا أن يبدأ بنفسه في البدء بالتحلي بالتواضع وان يكون قدوة في ذلك لأهله وأبنائه، كما وان هذه الصفة الحميدة العالية يجب ان يتحلى بها العلماء وان يكونوا قدوة في هذا المجال، لأنهم شمعة الأمة وضياؤها، وعليهم - بنفس الوقت - ان يعملوا على تذكير أفراد الأمة بهذه الصفة العظيمة وغيرها من الصفات الحميدة بين وقت وآخر، لأن الصفات الجميلة هي التي ترفع الأمة وتسمو بها.
قد لا نستطيع القول: ان التواضع ينتشر في أمة أكثر من أخرى، ولكن ندعو الله تعالى ان يجعلنا محافظين على أروع ما اختص الله به هذه الأمة المحمدية )كنتم خير أمة أخرجت للناس..( الآية، وان يبعد عنا أولئك الذين أذلوا التواضع وركلوه فجعلوا صورتنا سوداء بأعين الآخرين.
إنها دعوة مفتوحة لك أخي ولكِ أختي، ان تقف لحظة مع نفسك وتسألها أين موقعها من التواضع؟ هل هي في أول سلم التواضع؟ أم في منتصفه؟ أم في القمة؟ ونرجو ألا تكون قد ترجلت من سلم التواضع وركبت سلم التكبر والخيلاء. والخطر الأكبر أن تكون النفس قد فارقت السلم الأخير ولا يعرف صاحبها أين هي، والأدهى من ذلك أن يظن أنها تفعل عين الصواب.
وحقاً نقول: في التواضع تحلو الحياة، فدع حياتك تستمتع به،
والله من وراء القصد.
alomari1420@yahoo.com
|
|
|
|
|