| مقـالات
** هي رسالة
تفيض شوقاً
وتنبض لوعة
وتتحرق انتظاراً
وتتوقد لهفة
رسالة من أم كريمة ومتعلمة بعثت بها الى ولدها الغائب عنها
وقد بعثت إلي بصورة منها
لعل أي ابن يقرؤها يتأثر بها، ولا يطيل الغياب عمن يغليه.
وقد قدمت هذه الام بين هذه السطور:
)**اخي الكريم:
هذه الرسالة كتبتها في شهر محرم الماضي الى ابني الوحيد الذي يسكن في إحدى مدن بلادنا الكبيرة بالمنطقة الشرقية، وأنا اسكن في إحدى مدن بلادنا لصغيرة بالمنطقة الوسطى والمسافة بالكيلوات لا تتجاوز 600 كيلو متر.
وهذا الابن ليس عاقاً - بحمد الله - بل متواصل معنا ومع أسرته وخاصة في النواحي المادية، ولكن ما يؤلمني قلة زياراته لنا - وانا - ايها الأخ أعتبر رؤية بني تعادل الدنيا وما فيها..وهو يعتذر بانه مشغول - وهو - ايضاً محق في ذلك..لكن لاأعذره عندما يعرف مدى لهفتي على رؤيته(.
** وهذه رسالة هذه الام لابنها:
*) ابني العزيز..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
ابني: هل تعرف مدى شوقي اليك، واشتياقي لك..!
لعلك احسست بذلك عندما غلبتني دموعي وانت تهاتفني مساء الجمعة الماضية عندما رجوتك ان تأتي مرددة على مسامعك )الدنيا - يا بني - ليست طويلة(!
إنني: ابني اعرف ان الاعمار بيد الله، ولكنني - دائماً- اخشى ان يخطفني الموت او يخطفك - حفظك الله - وأنا لم أسعد بك، وبحديثك وبرؤيتك، وبرائحتك.
بني: منذ كان عمرك )18( عاما عندما فارقت دارتك وقلبي لإكمال دراستك، ثم توظفت وتزوجت وانا لم اهنأ بك، انك منذ الوقت تجيء وتأتي الي وتبقى اياما قليلة، وبين فترات متباعدة..وهذا لا يكفيني يا ابني ولو وضعت في هاجسك: ان الدنيا ليست طويلة لضحيت بأشياء كثيرة من اجل ان نلتقي بك ونأنس معك، ونسعد بأن يضمنا بيت واحد.
بني: انه من الصعب علي تصورك بعيداً عني وعن قلبي، وانت الذي سكنت احشائي تسعة اشهر..ثم بقيت بين احضاني )18( عاماً..واذا كان الحبل السري الذي يربطني بك قد انقطع مادياً فقد بقي )الحبل الوالدي( الذي يظل يربطني بك طوال الحياة بكل ما في جوانحي من حب الامومة الغريزي الذي لا يعادله أغلى شىء في هذا الوجود.
بني: ارجوك - بكل لهفة الام - ان تتغلب على ظروفك، وأن اراك في هذه الاجازة ليطمئن قلبي عليك، ولأسعد بك.
ارجوك يا ابني
ارحم قلبي، ارحم ضعفي، ارحم شوقي اليك(.
* امك *
*هذه هي رسالة الأم الى ابنها..
ولقد فرت دمعة من عيني وانا اقرؤها متأثرا بها، مستغربا من تأخر ابنها عن زيادرتها وهي الام التي تحمل له كل هذه المشاعر والاحاسيس التي لو توجهت الى صخر لاذابته.
انني أنشر هذه الرسالة من اجل هذا الابن، ومن اجل كل ابن او بنت لهما ام او اب بعيدان عنهما لعلهم يستشعرون عواطف آبائهم وأمهاتهم، ويحسون بمدى لهفة والديهم عليهم..!
وأروي هنا قصة تراثية بالغة التأثير تكشف مدى عمق عاطفة الوالد الشفيق على ولده.
)لقد كان هناك رجل - في العصر العباسي - يطلب رجلا دينا، وكان الدائن يتردد على المدين لتحصيل دينه، ولكن المدين يتعذر بإعساره، ومرة جاء الدائن واعتذر المدين فغضب عليه وضربه ضربة قوية على وجهه، ثم ذهب. وبعد أيام جاء الدائن الى منزل المدين وفتح له الباب ابنه فسأله عن ابيه فأفاده بعدم وجوده في الدار، وظن الدائن ان هذا الابن يكذب، فما كان من الدائن الا ان مد يده على الولد وضربه ضربة خفيفة، واذا بأبيه قادم الى بيته واذا به يشاهد هذا المنظر فما كان منه الا ان بكى، فقال الدائن: مالك تبكي لقد ضربته ضربة خفيفة، وبالأمس ضربتك ضربة موجعة فلم تبك؟ فقال الاب الشفيق الرقيق بعاطفة الابوة:)بالامس ضربت جلدي، واليوم ضربت كبدي(، فتأثر الدائن من هذه المقولة، واسقط دينه، وأقسم ألا يطالبه بهذا الدين أبداً..!(.
ارأيتم مثل هذه العاطفة!
انها عاطفة الابوة نحو البنوة هي ارقى وأسمى واندى عاطفة
انها لا ترتبط بمصلحة، او تنتظر مقابلا شأن كل عواطف وعلاقات الدنيا!
انها شلال حنان..انها فوق كل مظاهر الوجود وزخارفه، وأسمى من علاقات الناس الخرفية مع بعضهم.!
أما الأم..!
فعاطفتها أعظم وأقوى وأبل، ولا يمكن لابن - مهما بلغ بره - ان يوفيها حقها، بل بعض حقها.
لقد جاء رجل إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: لقد بررت بامي براً لم يبلغه احد، فقال له عمر كيف برك؟ قال: اذا ارادت ان تقضي حاجتها احملها على كتفي فقال له عمر: احسن الله اليك..لكن لم تبلغ بعد برها، فقال الرجل: كيف؟ قال عمر: لقد كانت تفعل معك ذلك وهي سعيدة تريد بقاءك وانت تفعل ذلك وانت كاره، وربما تريد فراقها، فصمت الرجل..!
* فيا كل ابن، ويا كل بنت:
تيقنوا أنه كما قالت الام صاحبة الرسالة )ان الدنيا ليست طويلة(، وربما تندمون ندما قاتلا عندما يرحل آباؤكم وأمهاتكم ويكونون تحت الارض، وتتمنون وقتها لقاءهم او البر بهم والحنو عليهم..ولكنكم عندها لا تقدرون، كيف وهم في باطن الارض وانتم فوقها.
يا كل ابن يعيش بعيدا عن والديه..
ويا كل بنت تسكن بمنأى عن والديها..
بروا والديكم..زوروهما دائماً..فالدنيا ليست طويلة وكفى..!
انني اختم هذه المقالة بقصيدة يحس من يقرؤها بلهفة الام وحنانها وعاطفتها ودموعها..قصيدة مؤثرة فاض بها قلب الام علي شكل رسالة لابنها الغائب عنها رجوه وتتوسل اليه ان يأتي اليها..ان يقر عينيها برؤيتها له.
ان هذه القصيدة تجسد عاطفة كل أم في هذه الدنيا..
وقد حمل هذه المشاعر شاعر مبدع )زكي قنصل( حيث خط رسالة امه وهي في سوريا، وهو بعيد عنها في الارجنتين فكانت هذه الرسالة القصيدة المطرزة بالشوق، والمخضبة بشجن الام:
جددت بالتعليل علاتي
وأثرت بالتسويف لوعاتي
كم ذا تواعدني ولا أمل
وأظل كاتمة شكاياتي
أنسيت خلف خطاك ادعيتي
ومحوت من عينيك قبلاتي؟
وتركتني في قلب عاصفة
هوجاء اخبط في المتاهات
خلَّفتني لليأس ينهشني
بالمخلب المتضور العاتي
الليل يطويني وينشرني
وانا ادافعه بزفراتي
اسقيه دمعاتي واطعمه
هذي البقايا من بقياتي
يا فلذة من روحي انسلخت
ماذا انتفاعي بالرسالات؟
اني لاشعر ان احرفها
تنساب شوكا في جراحاتي
جاء الربيع فلم يهش له
قلبي ولا بشت وريقاتي
عثرت بآلامي بشائره
وكبت مواكبة بغمَّاتي
عصف الشتاء بروضتي فذوت
هيهات تحيا بعدُ..هيهات
لا تلهني بالمال عن اربي
هذي الهدايا اصل مأساتي
اقبض يديك فلن اموت طوى
عندي لعادية الطوى شاتي
ماذا أقول لمن يسائلني
عما يصدك عن موافاتي؟
لا انت حي ارتجيك ولا
ميت فانفض منك راحاتي
عبثاً اعلل مهجتي بغد
ليس الغد المرجو بالآتي
يا ابني وتسألني: هل انقشعت
عن مقلتي حجب الغشاوات
انت الدواء فان نبذت يدي
لا طب يجدي في مداواتي
ما حاجتي للنور في بصري
ان لم تكن عيناك مرآتي؟
بيني وبين القبر مرحلة
اجتازها في بضع خطوات
يا ابني، قسوت وخانني جلدي
هلا سترت علي زلاتي؟
اني اخط رسالتي بدمي
وأسل من جرحي عباراتي
ان لم يكن في العوْد من أمل
رحماك..لا تهمل خطاباتي |
اجل.ان البعد لظى وظمأ..لظى يحرق وظمأ يقتل..وهو يكون اكثر قساوة وشجناً عندما يكون قلب الام هو الذي يحترق بلظى البعد.
وبعد..! اللهم ارحم الأموات من آبائنا وأمهاتنا، اللهم واحن عليهم كما حنوا علينا، اللهم اشفق عليهم كما اشفقوا علينا، اللهم اجزهم جزاء ما بذلوا وتعبوا وسهروا من اجل ان ننعم بحياة سعيدة.
اللهم وألبس رداء العافية كل أب وأم على قيد الحياة، اللهم وحنن قلوب أولادهم عليهم، وارزقهم البر بهم، وخفض جناح الرحمة لهم، اللهم وأعنهم على إسعادهم وإبعاد كل كدر عنهم ثواب بعض ما ضحوا لهم ومن اجلهم بأغلى ما يملكون من روح ومال وسهر وصحة..!
|
|
|
|
|