| الاخيــرة
بعض الذكريات التي لازلنا نحتفظ بها نحن جيل القنطرة الذي عاش الحياتين البائسة والناعمة، ربما تذكِّر شبابنا الذي لم يعش إلا الأخيرة منهما لذلك فهو منقطع الصلة بماضي أهله وبلاده، ويطلق على هذا الشباب لقب )عشبة الغار( أي العشبة التي نبتت في الظل.. ولو خرجت إلى الشمس لذوت وانكمشت واضمحل رواؤها.
كم هي الذكريات التي لازلت احتفظ ببصيص منها.. فيها ما يضحكني وفيها ما يكاد يُبكيني، ومنها )مواقف حرجة جدا( خلصني الله منها بيسر وسهولة.
سأذكر اليوم منها موقفا كنت فيه مع الهلاك غير بعيد.
كنا في القرى نستشرف وجود )الجراد( لنشبع من )نقوعته( عدة مرات، حتى ولو أضر بنخيلنا ومزارعنا المتواضعة. وما ذاك الا لشدة )القرم( وقلة اللحم في طعامنا. اضافة الى )لذته( التي نبحث عنها حتى اليوم...!
وكان أصحاب البصر الحديد يرصدون مكان رواحه و)منامه(ليرشدوا الناس إليه حينما يباغتونه قبيل الفجر وهو يبحث عن الدفء في غصون الأشجار أو تحت الصخور والأحجار.
كلما صدنا غمطة يد رميناها في )القفة( وهي إناء من خوص النخل لها جسم كبير وغطاؤها منها فاذا امتلأت أفرغت في )الخياش( أو )العدول( وحزمت حتى لا يتطاير جرادها. حتى يعودوا بها الى بيوتهم فتفرغ في القدور الكبار التي تغلي بالماء والملح.. فاذا نضج أطعم منه الجيران والفقراء والعاجزون عن الصيد. ثم يبدأ الجميع في التقشير والالتهام بشراهة متناهية. ويقولون في أمثالهم )مثل الجراد لا يشبع آكله ولا يستحي طالبه(.
هذه مقدمة لما سأحدثكم عنه بصدق وواقعية.
ذات ليلة رأوه بعد العصر كعمود من دخان.. وتابعوا مسيرته حتى نزل على الأرض وحددوا مكانه بما يبعد عن البلدة حوالي )15( كيلا، تقريباً.
لم أر من اخواني من تحمس للمشاركة في صيد الجراد.. وعند منتصف الليل شددت )البرذعة( على الحمار ولبست كل ما يدفيني، وخرجت من البلدة متجها نحو الجراد، متوقعا أنني سأجد الجرّادة السابقين أو اللاحقين. الذين سوف استأنس بهم من وحشة الطريق وما يكتنفه من أخطار، أهمها: الذئاب، التي تجوب الفيافي والقفار بحثا عن وجبة لحم دسمة.. سيان لديها اكان شاة، أم عنزاً، أم حماراً، أم غير ذلك مما اعتادت اغتياله ثم الجلوس على مائدته.
قبل أن أبعد عن البلدة كنت أسمع أصواتا خافتة لكني لا أراها لشدة الظلمة وتباعد المسالك الى المكان المقصود.
كنت انا وحماري وحدنا في هذا المَهْمَه.. نسير من غير رفيق أو أنيس. حيث ابتعدت كثيراً عن البلدة ودخلت في بعض الأودية الموحشة.
وسمعت أول نداء يوجه الى حماري لاستضافته في مضافة )أبو سرحان( فقد عوى عواء كاد يخلع قلبي رعبا.. أما حماري فلطبعه الوديع و)لشجاعته( النفسية في تقديم نفسه عشاء هنيئاً مريئا لهذا العاوي المرعب.. فقد مال بي الى جهة الذئب، وهذا طبع الحمير كلها حتى لا أظلم هذا المسكين وحده.. فهي حين ترى الذئب أو تسمع صوته تتقدم إليه فداء لأنيابه الزرقاء ومخالبه الجارحة.. قائلة له بلسان حالها:
«اذا كنت مأكولا فكن أنت آكلي».
لا تلوموا هذا الصبي الذي لم يبلغ الحلم بعد، حينما اشتد الصراع بينه وبين حماره، لتعديل مسار الحمار المتجه طواعية وبإصرار عجيب نحو الذئب تطبيقا لجبلتهم )الحميرية(! ولم أكن قد اخذت حسابي لمثل هذا الموقف الرهيب ولا حتى بالعصا التي يمكن ان ادافع بها عن نفسي حيث لم يكن معي سوى مطرق من أثل لا يتجاوز الذراع طولا. وقد أوجعت به الحمار ليعدل عن فدائيته بنفسه للذئب.
كان يتجه بي إجباريا نحو الذئب، وكدت أيأس من الحياة عند اصرار الحمار )للاتجاه المعاكس( الى ان بعدنا شيئا فشيئاً عن هذا اللص الغادر وقاطع الطريق.. فبدأ صوت عوائه يخفت، وبدأ قلبي يسكن استبشاراً ببعدنا عنه أو بعده عنا.
ولم يكن لي من حول أو قوة الى صده أو رده، سوى ما علمنيه والداي رحمهما الله من قول )أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق( مع قراءة آية الكرسي والاخلاص والمعوذات وذكر الله كثيراً.
*******
وبعد ساعات من هذه الليلة الليلاء في وحشة لم يَحُلَّ بي مثلُها من قبل ولا من بعد، وصلت مع بزوغ الفجر الى مكان الجراد، فصليت الفجر ثم اخذت القفة ووجدت الجماعة يتصيدون.. فأخذت أجمع ما تيسر لي من هذا الجراد الذي استيقظ أكثره من حركة الناس وتحرك الهواء.. إلا ان بعضه مازال يغط في نوم عميق لم يستيقظ منه الا في قبضاتنا )الذئبية(!
وحينما عدت الى البيت.. كان أول شيء اتجهت اليه، المرآة المثبتة في احدى السواري )الأعمدة( لأرى نفسي. هل بقيت سليما أم قد تغيرت سحنتي ببرص أو نحوه كما نسمع من العامة أن الروعة أو الوحشة المفاجئة قد تسبب مثل هذا المرض؟.
ولكن الله سلم والحمدلله رب العالمين.
|
|
|
|
|