| محليــات
انخرط )أ( من الناس في العمل...، بعد أن وُعد باعطائه فرصة الاستمرار إن هو أثبت جدارته، واكتسب خبرته، وقدر على أداء واجبه...
عمل بجهد منقطع النظير...، وحرص على مواعيد العمل، و«شرب» كافة أنظمته، ولوائحه... في مدة لا تكاد تُذكر...، حتى انبهر به الجميع... فقرَّبوه...، وأنزلوا فيه الثقة فلم يعد هناك ما يخبئونه عنه...
فجأة وجد نفسه مضطراً «للانسحاب»...، حاول رئيسه معرفة الأسباب، والكشف عما خلف هذا القرار من حجاب...، غير أنه حرص على إغلاق أي
شأن في هذا الباب..
وكلَّما جلس إلى نفسه...
كلَّما شعر بألم شديد...
كلَّما تمعَّن في حاجته، كلَّما تصبَّر على قراره...
أمسك ذات يوم قلمه...
وبسط ورقةً بيضاء أمامه...
وبدأ يخط فيها ما يعتلج في نفسه...
لم تأتِ أفكاره طواعيةً، ولا انهالت عباراته بوحاً... إلا بعد أن خطَّ عبارات... هي: «ما أجمل استقرار الضمير، عندما يرفض مغريات الحياة في مقابل رفض الظلم للآخرين»...
وضع القلم... وذهب في غفوة...
وعندما استيقظ... كان إلى كوب قهوته وهو يُعيد قراءة سبع ورقات لا يدري كيف ولا متى كتبها...
تبسَّم... وهو يحملها إلى رئيس تحرير صحيفة ما...
كي يبدأ في كتابة ما يلوح في الأفق... من تجارب الحياة...
جلست إلى أمها...
وأمامها ثلاثة أطفال أصغرهم في شهره الثاني...، والأكبر في عامه الثالث...
قالت لها: كنتُ قادرة على الصبر...
لكنَّ الأمر استفحل...
كيف لي أن أبرَّر لهؤلاء عندما يكبرون... أنني رضيت بالصبر على مالا يُصبر عليه؟
ربَّما تحت سقف هذا البيت أكون بكلِّ الحاجة قادرة على أن أقدم لهم مالا أستطيع أن أقدمه في بيت لا سقف له...
أفضت إلى صديقتها في العمل بأنَّها قرَّرت أن تعيد أبناءها إلى مدرستهم الأولى... ووجدت عند الأخرى ما وافق هذا القرار...
ان اندفاعهما في البدء وراء بريق الدعاية، وشهرة المدرسة، وما أُثير عنها من نظام حديث، وخبرات لا نظير لها...
غير أنَّهما وجدتا أن لا فارق يُذكر بين ما تقدمه من خبرات وبين أيَّة مدرسة أخرى... وأنَّ الفارق الوحيد ذو وجهين كلاهما مادي: الأول أنَّ رسومها عالية فوق قدرتيهما، والثاني أنَّها مدرسة صقيلة في كلِّ شيء خارجي... حتى زخارف أبوابها، وزخارف «كراسات» طلابها!!.
جلس بعد خدمة ربع قرن إلى «كرسِّيه» العتيق...
كان يحدثه بألم: إيه أيها المقعد البالي... بمثل ما أصابك من الزمن أصابني...، وبمثل ما صبرت وتحمَّلت ثقلي في شبابي، وعنفواني في حركتي...، تحمَّلت مسؤولية عملي، منحت وأعطيت، سهرت وتكبَّدت، لم أتأفف، ولم أجزع، ولم أتقاعس، ولم أقصِّر، كنت على إجابة فورية لكلِّ ما يطلب مني، لم أطمع في غير ما أنال، ولا أتطلع إلى أخذ ما ليس لي...، كنت راضياً، مُرضياً...
أمضيت في عملي أوقاته في هدوء... كسبت محبة الصغير والكبير...
اليوم...
لا أجد من يطرق بابي... وعندما أقابلهم يبدون لي الأسف فقط...
ولم أجد من يكافئني، عندما أمرض لا تفتح لي أبواب المستشفيات، فأقف في الانتظار...، وإن تطلَّعت للأفضل عليَّ «تدبير» قيمة الأفضل...
وإن تذكَّرت شخصاً ما...، لا أتمكن من رؤيته... تفصلني عنه أبواب وأبواب...
هذه الحياة؟
أم هذا هو ابن الحياة؟!
كان يتحدَّث إلى مقعده البالي... يتخيَّل أنَّه يجاذبه الحديث...
كلَّما سقط في أذنيه صوت احتكاك قطع خشبه التي فعل الزمن فيها ما فعل...
كلمّا مسح على «قماشه» المهترئ بيد...
ومسح دمعته بالأخرى...
الناس تمضي... وغوغائية الحياة تطوي هذه الأصوات ضمن تفاصيلها التي لا تُرى، ولا تُسمع...، إلا همساً في حدود مساحة موقع الذين هم إليها...
|
|
|
|
|