| العالم اليوم
* رام الله نائل نخلة:
كانا جميلين جداً عندما تزينا بملابس العيد وزاد فرحهما عندما أخبرتهما الأم بزيارة والدهما الذي يقبع منذ ست سنوات في سجن عسقلان..
فزيارة الأب لهذا التوأم «مالك ومصعب» تختلف عن كل الأطفال الآخريين، فقصتهما التراجيدية ليست بأقل مأساوية من حياة آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين يتعرضون يومياً للقتل والاعتقال..
23/9/1995م تاريخ الاعتقال للوالد وتاريخ بداية الحياة لمالك ومصعب، ففي نفس الليلة التي وضعت الأم ابنيها في مستشفى الهلال الأحمر بمدينة رام الله داهمت بمنتصف الليل قوات خاصة من الجيش الإسرائيلي منزل إبراهيم شلش في قرية شقبا غرب مدينة رام الله واعتقلته.
أحد أصدقاء شلش يقول التقيت بإبراهيم بعد صلاة العشاء في مسجد القرية قبل اعتقاله بساعات.
لقد كان مرهقا ومتعبا لأنه قضى ساعات طويلة برفقة زوجته في المستشفى ولكن سرعان ما ظهرت الابتسامة على وجهه عندما بدا الحديث عن طفليه الجديدين والذي كان سعيداً جداً بهما. خاصة بعد اعتقال دام اكثر من سنتين نهاية عام 1993م تعرض فيهما لأعنف جولات التحقيق ولكنه خرج صامداً وانعم الله عليه بأربعة أطفال أيمان 11 سنة، زيد 9 سنوات وكان التوأم مالك ومصعب آخرهم. والذي لم يلتق بهما إلا بعد سنتين من اعتقاله وفي بادئ الأمر كان صعبا عليهما التأقلم على والدهما، بل كانا يبعدان عنه كلما حاول الاقتراب أو الحديث إليهما تقول الأم ولكن بعد فترة من الوقت اقتربا من والدهما شيئا فشيئا حتى اصبحا الآن ينتظران الزيارة القادمة بشوق والأخوان الآن يدرسان في روضة الايمان في القرية تمهيداً لدخولهما المدرسة في العام المقبل، ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى قبل ستة شهور لم يتمكنا من زيارة والدهما في السجن بسبب منع السلطات الإسرائيلية لأهالي المعتقلين من الزيارة ليزيد من معاناة الأسرى والأهل على حد سواء.
زوجة الأسير شلش تقول لقد حرمني الاحتلال من زيارة زوجي أكثر من عام كامل حيث كانت سلطات الاحتلال ترفض إعطائي تصريحا للزيارة وتتذرع بأسباب أمنية ولكن هي في الحقيقة محاولة للضغط على زوجي الذي رفض الخضوع لهم طوال أربعة شهور من التحقيق بالرغم من الاعترافات المتراكمة عليه، ودائما كان يقول لي أحد ضباط السجن ان زوجي عنيد.
وتواصل أم زيد لقد كنت أرسل أولادي مع جدهم الذي كان الوحيد المسموح له بالزيارة من بين عائلة زوجي كلها ولكن بعد وفاته قبل أسابيع لا أدري كيف سأزوره خاصة بعد أن أخبرني الصليب أن المخابرات الإسرائيلية أعادت المنع علي مجددا لتكتمل فصول المعاناة. لم يكن يعلم ما يدور في خلد الحاج عبدالعزيز شلش أنه سيفارق الحياة دون أن يرى ابنه إبراهيم والذي يقضي حكما بالسجن ثلاث مؤبدات وثلاثين عاما بتهمة الانتماء إلى الجهاز العسكري لحركة حماس.
الحاج عبدالعزيز والذي توفي قبل أيام اثر سكتة دماغية أصابته وهو يعمل في أرضه التي طالما عرف عنه الاهتمام بالارض والزراعة ، ويقول من عرفه انه كلما ذكر أحد أمامه اسم ابنه إبراهيم حتى تتزاحم الدموع من عينيه اللتين فقد إحداهما لكثرة بكائه على ولده.
يقول ابنه إسماعيل: هذا هو قدر الله، أن يموت والدي قبل أن يفرح بلقاء ابنه وخصوصاً أن هذا الأمل باللقاء قد زاد بعد نجاح حزب الله في اسر الجنود الإسرائيليين، ولكن كان الموت أسرع من أي شيء آخر ولا راد لقضاء الله وقدره.
ويتابع كان والدي دائما يدعو الله أن يمد في عمره حتى يشاهد ابنه ويضمه إلى صدره الحنون، انها أمنية بسيطة ولكنها صعبة المنال من جندي صهيوني وقف جلاداً لكل الأسرى الفلسطينيين وقلب آباء وأمهات الأسرى في السجون يحترق لعدم رؤية الأبناء والذين انقطعت أخبارهم منذ خمسة شهور لا نعرف عنهم شيئاً.
ولم يستطع الحاج عبدالعزيز كغيره من أهالي المعتقلين زيارة ابنه طوال هذه الفترة سوى مرات معدودة سواء بسبب منع السلطات الإسرائيلية الأهالي من زيارة أبنائهم أو المرض الذي ألم به في السنوات الأخيرة، وكبر السن وقد بدت معالم كبر السن والمرض على وجهه ويديه كأنها ترسم خريطة الوطن والحواجز العسكرية التي كثيرا ما قطعها الحاج ليزور ابنه.
اعترافات مجندة إسرائيلية
في طابور طويل أمام مدخل «سجن مجدو» تنتظم 500 امرأة فلسطينية مع أولادهن، واليوم دوري لأقوم بتفتيشهن يجب أن ألبس سترة واقية من الرصاص وقفازات جلدية، أفتش حقائبهن وثيابهن وأحذيتهن وفي مناطق حساسة في أجسامهن وأضطر لرؤيتهن حاقدات باكيات، مستفرغات نازفات مهانات دون أن أبدي قطرة ندم. هذا ما قالته المجندة الإسرائيلية في «سجن مجيدو» سابقاً هلنا غولدوتسكي حول التجربة التي مرت بها خلال خدمتها العسكرية،شعرت في بعض الأحيان أننا نازيون يهود، ورغم المبالغة في التعبير فقد شعرت أنني أتحول إلى دابة، تقول غولدوتسكي في مقابلة أجرتها معها «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية: في كثير من الأحيان قلت كفى، أنا لا استطيع الاستمرار أكثر في العبث بملابسهن الداخلية شعرت أني ضحية مثلهن، أنا التي سمعت عن السجن في قصص دوستويفسكي فقط.
عندما تجندت كانت لي آراء يمينية جداً وعندما جئت إلى السجن كان العرب بالنسبة لي كتلة بشرية غير معرفة، وفجأة رأيتهم نساء وأطفالاً ذوي وجوه وملامح وصور إنسانية، فتغيرت آرائي السابقة عنهم وشعرت أنهم يتعرضون لظلم. هاجرت غولدوتسكي إلى إسرائيل من إحدى دول الاتحاد السوفيتي سابقاً محققة بذلك حلم حياتها، كما تقول، إلا أن هذا الحلم تحطم أمام الواقع الإسرائيلي، والدها الذي عمل هناك محاضراً في الجامعة ووالدتها التى عملت في شركة للقوى العاملة مازالا يعملان في أعمال هدفية، وهي التي حلمت بالعمل في جريدة الجيش «بمحنيه» لم تقبل لهذه الوظيفة لأن لغتها العبرية أقل من المستوى المطلوب.
ويبدو أن الحرب لم تضع أوزارها، والسلام الموعود أو المزعوم لم يأت بعد، تلك هي المعادلة التي مازال أشجع الناس هنا في السجون الإسرائيلية، ينزفون أعمارهم بين الخيام والابراش، وأطفال اصبحوا الآن رجالا ينتظرون ولو لمرة واحدة العودة إلى الطفولة كي يكتشفوا أحضان آباء غيبتهم ظلمات الزنازين مابعد أوسلو بأكثر من الفي عام، وكان ماكان فلا الطفولة عادت ولا الغد الجديد بددت شمسه عتمة الزنازين.
|
|
|
|
|