أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 27th April,2001 العدد:10438الطبعةالاولـي الجمعة 3 ,صفر 1422

شرفات

شخصيات قلقة
فرانزليست «1811 1886م »
الفنان الذى مات عدة مرات
عندما كان صغيرا أصيب بعدة أمراض مختلفة، وكان يبدو عليه الهزال والشحوب. وذات صباح اعتقد ان الصبي فرانز مات، فأسرع أبوه الى نجار القرية ليعد لطفله تابوتا بحجمه، خاصة ان أحد الأطباء صرح له منذ فترة وجيزة ان فرانز أوشك على الموت ولا شيء يفيد في علاجه!
ولأن الأعمار بيد الله عز وجل لم يمت فرانز كما توهم الطبيب، وبقوة الحياة استرد جسده شيئا من الصحة والعافية، ومرة أخرى خرج الى الشوارع وراء الفرق الغجرية التي تجول بين منازل المدينة وفي القصور والساحات تعزف وتغني نظير لقيمات يقمن الأود. وأحيانا يقبع في ركن المنزل ومن عينيه تنبعث نظرة نبيلة ومتعالية، بينما والده يعزف على البيانو بمهارة المحترفين.
كانت المرة الأولى وهو في السادسة من عمره حين شعر بأن أصابعه تنجذب بقوة غامضة الى هذه الآلة الساحرة، فوقف بعد ان أنهى أبوه عزف إحدى المقطوعات الموسيقية، وراحت أصابعه تلعب على البيانو لأول مرة وتعيد عزف المقطوعة بطريقة أذهلت الأب نفسه. حتما لم يتوقع ان يكون ابنه البكر مسكونا بطاقة العبقرية، فانطلق معه على درب العمل والكفاح والتعود على مواجهة الجمهور في الحفلات الخيرية، وكان ريع أولى حفلاته لصالح موسيقي أعمى. وأتاحت له تلك الحفلات ذيوع الصيت لدى الأمراء والنبلاء، وتقديم بعضهم منحة دراسية له لإكمال تعليمه الموسيقى.
في سن الحادية عشرة ووقف فرانز ليست لأول مرة على مسرح في فيينا عاصمة النغم والموسيقى، وفي عام 1823 التقى الصبي فرانز في احدى الحفلات بالموسيقار العظيم بيتهوفن الذي اتجه بعد انتهاء العزف الى المسرح وقبّل فرانز بحرارة وسط تصفيق الحاضرين.
تلك كانت البداية الحقيقية، وعلى إثرها ارتحل ليست الى العديد من المدن المجرية والألمانية وطرق أبواب باريس لأول مرة عام 1823م وأصيب باليأس والإحباط حين رفض مدير الكونسرفتوار في باريس أن يقابله، ولولا رسائل التوصية الكثيرة التي كان يحملها لماتت أحلام ليست قبل ان تولد، حيث نجح في العزف بأوبرا باريس ، كما عقدت أواصر حميمة مع ولي العهد الأمير ليوس فيليب، وبعدها انطلق الى لندن وسائر المدن الكبرى في أوروبا، يرافقه دائما أبوه الحنون والمؤمن بعبقرية ابنه الصبي.
وحدث أول انقلاب في حياة ليست عام 1827 حين سافر الى سويسرا وشعر بإرهاق عصبي بسبب الجهد الذي بذله في رحلاته الموسيقية، وأحس انه مُستغل وضائع، وكره مهنته كعازف رغم ما حققه من شهرة ودراسة، وفي نهاية الأمر قرر ان يترهبن وتقشف الى أقصى درجة.
ويبدو ان جسده الضعيف لم يتحمل أعباء التقشف مثلما يتحمل أعباء الحفلات والرحلات المتواصلة، فبدأ يصاب بالإغماء من وقت لآخر، وشعر الأب ان نبوءة الطبيب القديمة توشك ان تتحقق، لولا ان نصحه المعالجون بقضاء بعض الوقت في راحة تامة بأحد المنتجعات.
وعلى غير المتوقع وصل ليست بصحبة أبيه الى المنتجع، وإذا بالأب السليم والمعافى يصاب بحمى شديدة وما لبث ان فارق الحياة بين ذراعي ولده الصغير، وهو يوصيه قائلا «يا ولدي، سأتركك وحيدا ولكن موهبتك ستجعلك تقاوم كل من يريد بك شراً. إن قلبك طاهر وأنت ذكي ولكني أخشى من انزلاقك في الملذات فاحذر النساء لأنهن سيفسدن عليك حياتك ويسيطرن عليك».
بعد ان انقضت أيام الحزن البطيئة عاد ليست الى باريس وجاءته أمه من المجر حيث استأجر شقة صغيرة لهما واستمر منطويا على نفسه يمضي الساعات الطوال في التأمل والصمت الى ان عاوده الحنين الى الموسيقى فخرج من عزلته الى صخب المجتمع الباريسي، يعزف تارة ويعطي دروساً تارة أخرى. وفي حالة وجد ونزق أقام علاقة غرامية مع ابنة وزير التجارة والصناعة في حكومة مارتينياك. وكأنه نسي نصيحة أبيه، وكانت النتيجة ان علم الأب الوزير فطرده من البيت بلباقة وأصر على تزويج ابنته من شخص آخر، ليرتد ليست مرة أخرى الى حالة من الاكتئاب والأرق، وانهارت قواه العصبية لدرجة ان قرر الأطباء انه على وشك الموت، بل وأعلنت بعض الصحف خبر وفاته بالفعل.
وبعد عام كامل عاد الى باريس وأحدث مواجهات شرسة مع خصمه اللدود تابرغ وكانت المواجهات بينهما حديث الصالونات الأدبية والفنية ، وأبدى الموسيقار شوبان رأيه في الاثنين قائلا «ثالبرغ يعزف بامتياز ولكنه ليس رجلي المفضل، ليس هو النابغة في العزف على البيانو» . لم يكن سهلا على ليست ان يتقبل هذه المنافسة الفنية لأن البيانو كما يقول في رسالة الى صديق له «هو كلمتي وهو حياتي . وهو مستودع كل ما يدور في عقلي منذ أولى سنوات شبابي . فيه خزنت كل رغباتي وكل أحلامي وكل سعادتي وكل آلامي».
كل هذا الحب جعل من ليست شخصا قلقا كثير الوساوس إزاء رد فعل الجمهور، فمثلا عندما كتب مقالا ينتقد فيه بعنف الموسيقى الايطالية هاجمته صحف ميلانو بضراوة ووصفته بأنه سارق بارع لموسيقى غيره، وترتب على هذه الأزمة ان رفض ليست أحياء أية حفلات في ميلانو رغم انه عاش عاما كاملا في روما أو حين قابله جمهور مدينة لايبزغ بالصفير والاستهجان رافضين التوزيع الاوركسترالي الذي قدمه للسيمفونية الرعوية لبيتهوفن، تأثر ليست بهذا التصرف الغريب وانزوى في منزله رافضا تقديم أية حفلات أخرى ولولا إلحاح صديقه شوبان لما عاد مرة أخرى الى العزف.
كان ليست قد أعطى كل عمره للعزف على البيانو، سواء مؤلفاته او مؤلفات آخرين. يرحل من مدينة الى أخرى وحيدا ليعيش لحظات زهوه في حفلات لا تنتهي، بينما ترك زوجته ماري مع أبنائه الثلاثة «بلاندين وكوزيما ودانيال» في منزل والدته بباريس. وحين ذهب في جولة فنية الى وطنه المجر استقبل استقبال الأبطال الفاتحين، كما أتاحت له الإقامة في الوطن وضع مقطوعاته للأغاني الشعبية المجرية. وعلى هامش جولاته المتعددة كانت هناك ايضا علاقات غرامية متعددة، لعل أشهرها علاقته بالأميرة كارولين زوجة الأمير الروسي نيقولاس، والتي هجرت زوجها بلا ندم لتشاركه رحلاته الفنية أينما حل او نزل.
كما استبسلت في طلب الطلاق من زوجها كي تتزوجه، وحين مات الزوج غير مأسوف عليه كاد زواجها من ليست ان يتم لولا تصدي الكنيسة لهما، وبعد عشر سنوات من المحاكم والمساجلات والذهاب الى البابا نفسه تم تعليق هذا الزواج الى الأبد واكتفى ليست بعلاقة حميمة ومتباعدة مع حبيبته كارولين، علاوة على عدة علاقات اخرى عابرة مع بعض تلميذاته او المعجبات به.
ويبدو انه كان عليه ان يشرب مر المذاق من نفس الكأس، فابنته كوزيما طلبت الطلاق من زوجها رسميا كي تتزوج من صديقه الكهل فاجنر، وأمام عنادها اكتفى ليست بصدمة الخبر وقطع علاقته بهما، وانغمس في كتابة العديد من الموشحات.
كان ليست في أعماقه يعاني أزمة روحية ضارية، خاصة بعد رحيل زوجته ماري واجولت وكذلك صديقته جورج صاند. كما ان أصدقاءه انفضوا من حوله، فها هو صديقه برليوز يعيش وحيدا معدما، وصديقه فاجنر الذي مد له يد العون سنوات مديدة انقطعت الصلة به بعد ان تزوج ابنته دون رضاه. وهناك ايضا الحرب بين ألمانيا وفرنسا التي أصابته بالحزن الشديد.وفي أجواء من الحيرة قرر ان يترهبن مرة أخرى، وبعد ان احتفل بمرور خمسين عاما على أول حفل أحياه في فيينا، دخل بالفعل في سلك الرهبنة وأصبح رئيس أساقفة مدينة ألبانو، يرتدي الثوب الأرجواني أينما حل. ورغم تدهور صحته العامة وبداية الاستقساء لم يهتم ليست بعلاج نفسه او تغيير عاداته الى ان تفاقمت النوبة حيث أصيب بنزلة صدرية في حفل زواج حفيدته وأبقته طريح الفراش يعاني من احتقان في الرئتين، وبعد يومين من الإغماء المستمر تُوفي برانزليست وأقيمت له جنازة بسيطة دون مصاحبة فرقة موسيقية كالعادة.
وشتان الفارق بين هذا اليوم ويوم ميلاده حين تجمع تحت نافذة المنزل الغجريون يعزفون الألحان الشجية ابتهاجا بلحظات الميلاد!!
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved