| الاخيــرة
أتيح لي أن أقوم في نهاية الأسبوع برحلة فريدة إلى منغوليا الداخلية، مع جمع كريم من الأصحاب. أخذنا الطائرة من بكين إلى هيوهويت عاصمة منغوليا الداخلية، ومنها بدأت رحلتنا البرية حيث قطعنا في المرحلة الأولى نحو سبعمائة كيلومتر نحو الغرب على طريق اسفلتي جيد، وفي فجر اليوم التالي سلكنا طريقاً غير معبد إلى قلب الصحراء أو المروج كما تسمى في الصين متجهين إلى الشمال الغربي لنصل بعد أكثر من سبعمائة كيلومتر إلى حدود منغوليا الخارجية. كان الطريق صعب المراس، وكانت الأرض قفراً لاشيء فيها، كان الرعاة في هذا الجزء من العالم. يختلفون عن أقرانهم في المملكة، فهم ليسوا رحَّلاً كما هي الحال لدى البدوي العربي، إضافة إلى عدم استخدام الخيام كمساكن، بل كانت مساكنهم مبنية من الطوب الذي يختلف في تجهيزه طبقاً لإمكانات صاحبه وهم لا يقطنون في جماعات بل يبعد البيت الواحد عن الآخر نحو عشرين كيلومتراً، رغم أن هناك رابطاً اجتماعياً بين تلك البيوت يتمثل في بروز شيخ للمنطقة موازياً لمهام شيخ القبيلة في البادية العربية.
لقد كانت الصحراء مقفرة بحق، حيث خلت من الخضرة والطير والحشرات والحيوانات البرية حتى أننا لم نر في رحلتنا ذهاباً وإياباً سوى جربوع واحد مارقاً أمام ضوء السيارة، وكان الجو بارداً بدرجة مقبولة حيث كانت درجة الحرارة نحو الصفر، في الوقت الذي تصل فيه إلى نحو خمسة وثلاثين درجة فوق الصفر في فصل الصيف مع عواصف ترابية عاتية، وخمسة وثلاثين درجة تحت الصفر في فصل الشتاء، مع وجود بعض الثلوج وتنحصر أعمالهم في رعي عدد غير قليل من الماعز والغنم والإبل، وتربية عدد قليل من الدجاج للاستخدام المنزلي.
وعندما توقفنا بباب أحد الرعاة اقبل مسرعاً ليقدم لنا ما تستوجبه الضيافة، وأخذت ألقي النظرة تلو الأخرى نحو المنزل وساكنيه، فإذا ببيت قد بني من الطوب وبجانبه مروحة هوائية لتوليد الطاقة إضافة إلى خلية شمسية، فتعجبت من ذلك الراعي الذي ربط بين الرعي والتقنية المفيدة.
وأقبلت إلينا امرأة من خدرها، وقد تبرقعت بمنديل )فوطة( ثقبت فيه ثقبين لترى من خلالهما.
فسألتها عن السبب في ذلك فأجابت بأن ذلك يحمي نضارة خديها.
كان لدى هذه العائلة عدد غير قليل من الخراف النظيفة وعدد من الجمال الممتازة مع أولادها، فسألتهم عن أسعار الأغنام والإبل، فحدثني رب العائلة عن الغنم ورفض مجرد الحديث عن أسعار الإبل ذاكراً بأن من عادة القبائل المنغوليةألا تبيع صغار الإبل التي لم تبلغ السنة من عمرها، وأعتقد أن ذلك يعود إلى عدم حرمان الأم من جنينها.
وسرنا مسافة ستين كيلومتراً عن هذا المنزل إلى منزل آخر، وجدنا به عائلة منغولية رعوية أخرى تتكون من الأب والأم، وبنتين وثلاثة من الولد قد تجاوزوا جميعاً سن الرشد وكان البيت متواضعاً فلا كهرباء ولا شيء يذكر، سوى هذه الإبل والأغنام، وتبعد أقرب مدينة عنهم نحو تسعين كيلو متراً يذهبون إليها لقضاء حوائجهم عن طريق الدراجة النارية الوحيدة لديهم.
كان الجهد والتعب قد أخذ منا نصيبه، فسارعت إحدى الفتيات إلى ما لديها من لحم فقطعته أوصالاً وبدأت في طهيه، وبعد فترة من الزمن سارع السائقون في التهامه، بينما اقتصر أكلنا على تناول مالدينا من تمر وأقط وبعض من الخبز والبسكويت. وبعد ذلك عدنا أدراجنا حتى وصلنا إلى مركز حدودي سبق أن تجاوزناه وبجانبه استراحة متواضعة فاشترينا خرافاً وذبحناها وأخذنا في طهيها، والتعب قد بلغ منا مبلغه، وفي غضون ساعتين كنا قد فرغنا من تناول عشائنا، وسرنا عائدين إلى حيث أتينا، وبسبب هذه القفار وظلمة الليل ضل السائق الطريق فأخذنا نسير ليلنا كله وإذا به يدرك خطأه حيث قد ذهب إلى الجنوب الغربي بدلا من العودة إلى الجنوب الشرقي، وقد دفعنا ثمن هذا الخطأ مزيداً من العناء والتعب فواصلنا المسير نحو سبعمائة كيلومتر أخرى رأينا خلالها مناظر خلابة من أودية ومروج لم تكتمل خضرتها بسبب البرد القارس، وفي الساعة الثانية عشرة ظهراً وصلنا إلى الفندق بعد أن قضينا نحو ثلاثين ساعة متواصلة دون نوم، ومع هذا فقد أزال هذا التعب الجسدي طيلة الطريق تلك المتعة النفسية الرائعة بصحبة إخوان أعزاء.
|
|
|
|
|