| الثقافية
الإبداع موهبة وحرية وعبقرية، وهو مطلب حضاري جوهري لجميع الأمم. وهو ليس ترفاً بل ضرورة من ضرورات البناء، ومقياس تطور الأمم، ودليل على التقدم الحضاري. وهو الدافع لأي تقدم علمي أو فكري أو فني.والمبدعون هم ثروة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهم الشموس التي تضيء غياهب التخلُّف، وعقولهم تخترق حواجز التقليد، وتبحر صَوْب المجهول. ومن ثم فبقدر ما تنجح أمة في الكشف عن الطاقات الإبداعية لأبنائها والإفادة منها، تكون أمة متقدمة ومتطورة حضارياً.
العرب والإبداع:
وقد تنبه العرب قديماً إلى أهمية الإبداع، فمنهم من ألف عن الأذكياء لما للذكاء من علاقة وطيدة بالإبداع، مثل ابن الجوزي وكتابه )الأذكياء(. ومنهم من ألف عن الذين تنسب إليهم أوائل الابتكارات والممارسات، مثل )الأوائل( لأبي هلال العسكري، و)الوسائل إلى مسامرة الأوائل( وغيرها.
واهتم الحكام والعلماء العرب قديماً بالإبداع، فظهر كثير من المبدعين العرب في شتى المجالات النظرية والتطبيقية، أمثال الجاحظ، والمتنبي، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن رشد، والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية، وغيرهم خَلْق كثيرون شيدوا حضارة عربية عالمية زاهرة لانزال نعيش على ذكراها، ونقتات بنتاجها، ونزهو أمام الأمم بها.
تعريف الإبداع:
لكن دعونا نتساءل: ما الإبداع؟ لاشك أن الإبداع عملية معقدة يصعب تعريفها، ولكن بشيء من التبسط يمكن استخلاص تعريفين للإبداع من الدراسات الحديثة التي دارت حوله، فالإبداع ابتكار الشيء على غير مثال سابق. أو هو: إنتاج شيء ما، على أن يكون هذا الشيء جديداً في صياغته، وذا تأثير في مجاله، وإن كانت عناصره موجودة من قبل.
شروط العمل الإبداعي:
يتضح من التعريفين السابقين أن أي عمل إبداعي ينبغي أن يتوافر فيه شرطان اثنان، الأول: أن يكون هذا العمل جديداً مبتكراً بعيداً عن النمطية والتقليد. وهذا لا يعني أن الإبداع ينشأ من فراغ، فهو يمر في مراحله الأولى بالتقليد، لكن لا يقتصر عليه، وبمعنى آخر: إذا كان يُقْبَل من الشخص المبدع أن يقلد غيره في بداية حياته الإبداعية، فلا يقبل منه بحال من الأحوال أن يظل أسيراً لهذا التقليد، فأي تقليد، وإن كان تقليداً ناجحاً، لا يمكن عَدُّه من باب الإبداع في قليل أو كثير.
والشرط الثاني: أن يحمل هذا العمل الإبداعي جديداً إلى الناس والحياة، بحيث يُشَكِّل إضافة نوعية حقيقية للمجال الذي ينتمي إليه، ويؤثر تأثيراً جاداً وواضحاً في البيئة المحيطة، وإلا كان لغواً لا قيمة له، فالإبداع لابد أن يسهم في تطوير الحياة والمجتمع والناس، ويخطّط لمستقبل أفضل، وهذا هو الدور الحقيقي للمبدعين في مجتمعاتهم في أي زمان ومكان.
صفات شخصية المبدع:
ونؤكد في هذا المقام على شخصية المبدع، إذ المبدع شخص من طراز خاص، يمتاز عن غيره من البشر بصفات خاصة تجعله جديراً بأن يكون مبدعاً. وأولى هذه الصفات الإحساس المرهف، ذلك الإحساس الذي يجعله يشعر بما لا يشعر به الآخرون من غير المبدعين، وينتبه إلى ما لا ينتبه إليه غيره. ويتصف المبدع كذلك بالخيال الواسع، والذكاء، والحرية، بالإضافة إلى ما حباه الله من موهبة الإبداع فالخيال الواسع يمكّنه من اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء أو العناصر لم تكن موجودة من قبل، كما يساعده هذا الخيال النشط على تصميم نماذج جديدة، وصياغة أطر مبتكرة، ولا يأتي له ذلك إلا بالذكاء والفطنة، وباختصار: المبدع شخص عبقري من طراز خاص. إن المبدع في الأصل شخص موهوب، لكنه لابد أن ينمي موهبته ويُصقلها بالتجارب، وهو في حاجة ماسة إلى حرية حقيقية، لينفلت من إسار الواقع والتقليد، ويحلق في آفاق جديدة، وليبحر صوب المجهول، ولذا فإن التقاليد الصارمة، والموروثات النمطية، والحدود المصطنعة، والروتين، كلها مواد سامة تصيب المبدع في مقتل، وتقضي على إبداعه، بعد أن تُكبِّله وتسجنه وتشل تفكيره وخياله.
البيئة والإبداع:
والإبداع أياً كان فكرياً أو أدبياً أو فنياً يحتاج الى عوامل مهيئة تساعد على نموه، فهو يتطلب تربة خصبة وصحية لتنبت فيها بذوره التي لو لم تجد رعاية وعناية خاصة فلن تكتب لها الحياة، فالمبدع بحاجة إلى أجواء نفسية صحية تتناسب وصفاته الشخصية، من رهافة الحس، وسعة الخيال، والذكاء، والحرية. فلا يعقل أن يحيا الإبداع في بيئة تسودها العقد النفسية، والضجيج، والأمراض النفسية، ويسيطر عليها الروتين، والمنافع الشخصية، والمحسوبيات، وتسودها الأحقاد.
واقع الإبداع العربي:
ونظرة إلى عالمنا العربي وواقع الإبداع فيه، تجعلنا نجزم بأن الإبداع العربي في أزمة حقيقية، نظراً لما يعانيه المجتمع العربي في هذا العصر من مشكلات متراكمة، وما يسوده من موروثات بائدة ومنغِّصات قاتلة، وما يستشري في أوصاله من أمراض تعمل كلها ضد الإبداع، وتجرفه بلا رحمة، لتسرع به في النهاية إلى مثواه الأخير.
إن العالم الغربي يطالعنا في كل يوم بالجديد من الاختراعات والاكتشافات والقفزات الإبداعية السريعة والمتلاحقة التي تنقطع أنفاسنا من دون اللحاق ببعضها، وفي الجانب الآخر يبدو الإبداع العربي شاحباً وبطيئاً ومهيض الجناح. فهو الحاضر الغائب، وبصراحة قلما نعثر على إبداع عربي حقيقي، مما يجعلنا نتساءل: ما السر في هذه الحالة المتردية التي يبدو عليها الإبداع العربي؟ هل يعود السر إلى جمود العقلية العربية أو تخلفها؟ في الواقع لا يعود السر الى جمود العقلية العربية أو تخلفها، بل يعود إلى عوامل ومعوّقات عدة في مجتمعاتنا العربية. فما يقتل الإبداع في مجتمعاتنا العربية عوامل كثيرة، أهمها عشق التقليد، والولوع بالعيش في عباءة الماضي، بدعوى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. وكذلك التسلط والقهر، وقولبة الآخرين كل هذه أمور عمت بها البلوى في المجتمع العربي، نراها داخل الأسرة العربية، وداخل المؤسسات التعليمية العربية، وفي مختلف الهيئات والمؤسسات العربية المختلفة وبخاصة الحكومية منها.
فالتسلط الأبوي يقتل روح الابتكار والمغامرة لدى الأطفال الموهوبين، كما أن تنميطهم وإخضاعهم للنمط السلوكي للكبار يعيق نموهم وجدانياً وعقلياً نمواً سليماً، ويشل تفكيرهم، ويُكبِّل خيالهم الإبداعي، لأن الإبداع خيال واستكشاف.
كما أن تدجين الطلبة وإخضاعهم لنزعة الامتثال في المؤسسات التعليمية العربية، وقصر نشاطهم على الحفظ والتلقين فحسب يقتل موهبتهم الإبداعية، وخاصة في المراحل الأولى من التعليم.أضف إلى هذا ما يلقاه الطلبة المبدعون من تجاهل وعدم مراعاة الفروق من تجاهل وعدم مراعاة الفردية بينهم وبين غيرهم. وكل ما سبق يتم تحت شعار غرس القيم الخُلقية، مثل: الاحترام، والطاعة، والنظام، والمساواة، والعدالة، والنتيجة المحتومة أن يتحول الطلبة المبدعون إلى أداة راضخة، وإلى آذان صاغية، وتصير عقولهم مجرد أوعية لا تصلح إلا للحشو من قبل الأساتذة بما يريدون من معارف وأفكار وآراء غير قابلة معاذ الله لأي نقد، كأنها لا يأتيها أبداً الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ولا يبدو الأمر أحسن حالاً في المؤسسات والهيئات العربية الأخرى، فمعظمها يرفع شعار التسلط والقهر من جانب المسؤولين لمرؤسيهم، فما يراه المسؤول هو عين الصواب، غير قابل للتعديل أو مجرد النقاش، فالمسؤول يريد أن يرى مرؤوسوه بعينه هو، وأن يفكروا بعقله هو، ومن تمرد أو حاد عن تعليماته قيد أنملة كانت في انتظاره العقوبات والخصومات والتهديدات بالفصل وغيره. هذا فضلاً عن تجاهل الكفاءات المبدعة في أغلب الأحوال، وإسناد الوظائف والأعمال إلى غير الأكفياء، نظراً للمحسوبية والمجاملات والوساطات التي تنخر في جسد الأمة العربية صباح مساء.
في سبيل علاج الأزمة:
عد كل هذا لا نتوقع للإبداع العربي أن ينمو نمواً طبيعياً أو أن تُكتب له الحياة أصلاً: فالمبدعون الحقيقيون قلما يهتم بهم أحد، وكثيراً ما يُضطهدون وتوصد في وجوههم الأبواب، ويُحارَبون من ذوي المصالح النفعية والآفاق الذهنية الضيقة، فيدب اليأس في نفوس بعض هؤلاء المبدعين، ويستسلمون للعاصفة، ويُقبَر الإبداع حياً في عقولهم ووجدانهم.وفريق ثان ينجو بإبداعه وبنفسه إلى الخارج، ليجد ذراع الغرب مهيأة لاستقباله واحتضان إبداعه. وبين هؤلاء وأولئك فريق ثالث آثر أن يثبت أمام إعصار معوقات الإبداع العربي، وان يتحمل في سبيل إبداعه كل الصعوبات. فهذا الفريق قد يصل بعض مبدعيه بعد عناء وجهد جهيد وينحت لإبداعه مكاناً بين الصخور، وكثير منهم يموتون وتموت معهم إبداعاتهم وابتكاراتهم، بعد أن يصابوا بالإحباط واليأس، نتيجة البيروقراطية والروتين، وتجاهل المسؤولين لهم، وعدم توافر الأموال اللازمة لتمويل إبداعاتهم، وانصراف وسائل الإعلام العربي عن هذه الإبداعات، فقد صار كثير من وسائل إعلامنا العربي حكراً على بعض المنتفعين، فلا تكاد تعنيها الفكرة الجيدة ولا العمل الإبداعي الجاد، بقدر ما تعنيها المصالح المتبادلة أو المنافع المادية الزائلة.ترى: هل يُفيق المجتمع العربي من غفوته ويدرك قيمة الإبداع الحقيقي لا الإبداع المزيف الذي تصطنعه بعض وسائلنا الإعلامية العزيزة؟ وهل سيدرك حقيقة ان الإبداع العربي في أزمة؟ وأخيراً نتساءل: ماذا لو عاش المبدعون والمبتكرون العرب المهاجرون، مثل الدكتور أحمد زويل، والدكتور مجدي يعقوب وغيرهما، في المجتمع العربي، هل كانوا سيُبْدِعون أو سيسمع أصلاً بهم أحد؟!!
نعم، نؤكد على أن الإبداع العربي في أزمة حقيقية، وهي أزمة ليست بالمرض المستعصي الذي يستحيل علاجه، وإن كان علاجها صعباً وطويل الأمد، يحتاج صبراً وتكاتفاً من كل مؤسسات المجتمع العربي وأنظمته المختلفة.
صحيح أن عملية الإبداع فردية تتعلق بشخصية المبدع، لكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمجتمعها، فإذا لم يحتضنها بجميع فئاته ومؤسساته وأنظمته، ويوفر لها الرعاية والعناية اللازمتين، ويهيئ لها الظروف المناسبة والأجواء الصحية الضرورية لنمائها ضعفت واضمحلت وانتهت.
وفي سبيل علاج هذه الأزمة لا بد من وجود قيادات عربية تؤمن بأهمية الإبداع الحقيقي، وتُجنِّد كل الإمكانات المتاحة لتفيد من جميع الطاقات الإبداعية، وتعمل على توفير المناخ المناسب لها والصالح لنمو إبداعاتها. وقبل هذا كله العمل الدؤوب لاكتشاف هذه الطاقات الإبداعية، والبحث عن أنسب السبل لتنميتها وتقديم الرعاية اللازمة لها، لتصبح طاقات إبداعية خلاقة وفاعلة في مجتمعها العربي.
فمسؤولية أي أمة تسعى إلى الرقي والتقدم الحضاريين، أن تبحث عن المبدعين من أبنائها، لا أن تنتظرهم حتى يبحثوا هم عنها، وأي مجتمع متحضر في العالم يبدأ بالتعرف على ميول الفرد ومواهبه منذ سن الطفولة، ليس في المدرسة فقط، وإنما في المنزل كذلك، وفي الروضة، والنادي، وإن كان العبء الأكبر في هذا الصدد يقع على عاتق وزارات التربية والتعليم في العالم العربي.كما يقال )اليد الواحدة لا تصفق(، فلابد من تعاون الأسرة مع المدرسة، فالوالدان إن لم يكن لديهما وعي بمعنى الإبداع وأهميته، واستعداد للتعاون مع المدرسة لاكتشاف هوايات أبنائهما وميولهم ومواهبهم الإبداعية فلن يتحقق الهدف المنشود.ولتحقيق ذلك علمياً يمكن للمدرسة أن تخصص سجلاً خاصاً بكل طالب تدون فيه كل ما يتصل به من مواهب وميول وصفات شخصية، وتسجل فيه كذلك علاقاته مع زملائه وأساتذته ومشكلاته.. إلخ، على أن تتابع الأسرة هذا السجل متابعة يومية دقيقة، وتدون هي الأخرى فيه ملاحظاتها حول ما سبق، وترصد فيه كل تغير أو تطور يطرأ على حياة الطالب، وتساعد المدرسة على تنمية الإيجابي من هذه التطورات ومعالجة السلبي منها.
سبل اكتشاف الطاقات الإبداعية:
كما لابد من تعاون جميع مؤسسات المجتمع العربي في اكتشاف الطاقات الإبداعية العربية، وتوفير المناخ الصحي لتنميتها، وتبادل الخبرات في هذا الشأن، فتضافر الجهود العربية ضرورة حتمية للعناية بالمبدعين والاستفادة من أعمالهم الإبداعية، وبخاصة أننا في عصر التكتلات والعمل المؤسسي الجماعي.
ومما يساعد على اكتشاف هذه الطاقات الإبداعية وتنميتها، نشر الثقافة الإبداعية، سواء أكانت فكرية أم أدبية أم فنية، وترجمة الأعمال الإبداعية العالمية من أجل الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى. وتكون هذه الأعمال المنشورة بأسعار تتناسب مع معدلات دخل المواطن، بحيث تصير في متناول الجميع أو معظم فئات المجتمع على الأقل.
ومما يُجدي نفعاً في هذا الصدد أيضاً عقد دورات لتدريس بعض الأعمال والفنون الإبداعية، تشرف عليها وزارات الثقافة العربية. ويتم تبادل الاستشارات في هذا الشأن، فذلك يؤدي الى تفتُّق الموهبة الإبداعية الكامنة داخل عقول بعض الناشئة ووجدانهم، إذا ما أعجبوا بأعمال إبداعية رائعة تكون بمثابة نماذج رائدة لهم، يقتبسون منها ويطورون أنفسهم حتى يتخطوها إلى أعمال إبداعية من إبداعهم وابتكارهم الخالص.
إذن، فالعناية بالنماذج الإبداعية الرائدة أمر ملح، وذلك بنشرها في الصحف والمجلات وتحليلها وعرضها في وسائل الإعلام المختلفة، كما أن الإكثار من المسابقات الدورية الإبداعية للناشئة يسهم في التعرف إلى طاقاتهم الإبداعية، بحيث ترصد جوائز للأعمال الإبداعية الفائزة، ما يخلق نوعاً من المنافسة الشريفة بين الناشئة، ويحفزهم على تنمية مواهبهم وإبداعاتهم.
الحرية المنضبطة:
ومن الضروري تشجيع الأعمال الإبداعية للشباب والناشئة لتكتمل الدائرة، ورصد الأموال اللازمة لتمويلها من خلال مؤسسات خاصة تنشأ لهذا الغرض، ثم نشر المتميز من هذه الأعمال وتثمينه، والعناية بنقده وتحليله نقداً إيجابياً هادئاً وموضوعياً، بعيداً من التعصب والانفعال والنقد اللاذع والاعتبارات الشخصية التي لا تخدم الإبداع، مع الأخذ في الحسبان عامل السن وقلة التجارب، وبما لا يتعارض مع حرية الإبداع. أما الخوف والقمع والإرهاب الفكري أو الثقافي أو الفني، فتقف حجر عثرة وسداً منيعاً أمام العمل الإبداعي. فالحرية المنضبطة أو لنسمّها )المسؤولة( هي متنفس الإبداع وإكسير الحياة الإبداعية.ولا ننس ما للتربية العربية من دور بارز وأساسي في اكتشاف الطاقات الإبداعية، وتنميتها واحتضانها، والإخفاق في هذه التربية يعني وأد وقتل الطاقات الإبداعية، ومن ثم يتخلف المجتمع عن ركب الحضارة العالمية، وتزداد الهوة الحضارية بين المجتمع العربي والمجتمعات الغربية المتحضرة، حتى يتسع الخرق على الراقع، وينفلت زمام الأمور من أيدينا - لا قدر الله -.
جامعة الامارات
|
|
|
|
|