| مقـالات
أشرت في مقالة «شدو» يوم الثلاثاء الماضي إلى ما هنالك من انشطار، أو صراع، في الثقافة العربية تجاه الحقوق المعنوية للمرأة، قياساً على الجوانب الحسية من هذه الحقوق، وأشرت كذلك إلى أن ذهنية القبلية العربية قد تم دمجها ثقافياً واستدماجها نفسياً الأمر الذي على أثره تخلقت «ذهنية الذهان» مشطورة بين ما يجب إحقاقه للمرأة دينياً وما تفرضه العقلية من تأطير وأساطير لا تمت إلى الدين الحنيف بصلة. هذا وقد استعرضت أيضا أبياتاً شعرية من التراث تأكيداً لما أطلقت عليه مسمى «الشعر الذهاني» المتمثل في تمني موت البنت بل عدم الاكتراث لموت المرأة إجمالا، أُما أكانت، أم زوجاً، أم أختاً. هذا وقد ذكرت إن شيوع ظاهرة التغني بالشعر تمنياً لموت المرأة واختفاء الثقافة بمثل هذا الشعر - بوصفه إبداعاً - ليس سوى عرض من أعراض الذهان المذكور حيث تسربل إلينا من لدن أيام العرب «الداحسية المشؤومة الغبراء!»، فاستدمجته مشاعر الجهل، واستنسخه الشعر - والنثر كذلك - آليات للمناورة في أروقة المقدس والممنوع.... بين المستدمج قبلياً والمفترض دينياً. إن مجرد إلقاء نظرة سريعة على عصر من عصور التألق الحضاري العربي - وليكن العصر الأموي أو العصر العباسي - كفيل بمنحنا «جهاز ألتراساوند» أو منظاراً ثقافياً نستطيع من خلاله فهم ظاهرة الانشطار الثقافي/ النفسي المتوارثة في الثقافة العربية تجاه المرأة ومكانتها الثقافية العربية.
خذوا مثالاً على ذهان ذهنية الثقافة وليكن البيت المشهور للشاعر جرير الذي نصه:
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار |
حسناً، ما السر في تجاهل جرير - ذلكم الشاعر المشهور بل العاقل والمتدين، على الأقل قياساً على مجون خصمه: الفرزدق! - .. أقول ما السر في تجاهله لموت زوجته «خالدة» التي تذكر المصادر التاريخية عنها كل ما يسر من صفات الزوجة المثالية؟! لماذا لم يَرْثها.. تصريحاً باسمها؟ بل لماذا اكتفى - كما توحي بذلك «لولا» الامتناعية - بتعليل عدم بكائه أو زيارة قبرها بالحياء .. حياء مِن مَن..؟ بالتأكيد من ثقافة القبيلة اللوامة.. الناهية عن مبدأ ديني شريف من حيث إن زيارة المقابر سنة إسلامية حميدة يؤجر ويثاب فاعلها؟ بالمناسبة، بيت جرير هذا لم يرد ضمن قصيدة اختص بها جرير زوجته «خالدة» بل ورد ضمن قصيدة هجاء جريرية لخصم من خصوم جرير، فلا غرو إذاً أن يمتد الزمان بهذه العقلية لتصلنا فيروساتها، ويصيبنا «حياء جرير!» الذي منعه من أن يزور قبر زوجته المخلصة ويدعو لها بالرحمة والمغفرة، ليمنعنا هذا الحياء «الذي لا يستحي!» عن ذكر أسماء من تقبع الجنة تحت أقدامهن: أمهاتنا، الأمر الذي يؤكد أن هذا الحياء المرضي ليس سوى مرض ثقافة تمنع الرجل من رثاء زوجته غير أنها لا تتردد في منحه حق رثاء الجارية، كما هو معروف وشائع في التراث العربي، بل وأسوأ من ذلك: حين تمنح هذه الثقافة الرجل حق «الغيرة!» على جاريته إلى حد البكاء المخزي، كما تفيدنا المصادر التاريخية، بل كما فعل الخليفة المتوكل «صاحب الأربع آلاف جارية!»، الأمر الذي يفسر طلسم العقلية التي ترى في موت الزوجة «عرس جديد!» قادم، كما كانت العرب تقول.
في مقالة الأحد القادم إن شاء الله تستكنه «شدو» حيثيات وعوامل التأسيس الثقافي لهذه الظاهرة لنعرج بعجالة على ما يحويه الشعر الشعبي من سمات إنسانية تدل على التصاقه بالواقع وانبثاقه منه بدليل أن الشاعر الشعبي لم يعان ثقافياً من «خجل جرير» فيترفع! عن رثاء زوجته المتوفاة، بل على النقيض من ذلك بدليل ما تزخر به ثقافتنا الشعبية من قصائد رثائية خالدة، كرثاء نمر بن عدوان لزوجته، وبكائيات ابن لعبون على «قبر بتلعات الحجازي!» ... بل كما يتضح في اعتزاز البطل الشعبي بأخته حين لا يتوانى عن الانتساب إليها «عزوة» استدراراً للشجاعة والثبات في مواقف الخطر والشدة ، كما اشتهر عن «أخو نورة» .. البطل المؤسس الملك عبدالعزيز أغدق الله عليه شآبيب رحمته ورضوانه.
للتواصل : ص ب 454 رمز 11351 الرياض
|
|
|
|
|