| الاخيــرة
هناك من يختزل مفهوم الأمانة في حفظ الودائع، وهو جانب مهم ولا شك، إلا أن الأمانة بمفهومها الشامل تتعدى ذلك لتشمل علاقة الفرد وتعاملاته مع أفراد المجتمع الآخرين في مختلف المجالات، فالمال أمانة، والعمل أمانة، والتربية أمانة، والتعامل مع الزوج أمانة، وبر الوالدين أمانة، والمجالس أمانة، والنصيحة أمانة والقول أمانة، والكتابة أمانة..
إن كل وجه من هذه الوجوه للأمانة ينطوي على معنى جليل وأهمية خاصة، فأمانة المال هي الممحص لتقوى القلوب، وما أبلغ قول الفاروق رضي الله عنه:
«لا تنظر إلى صلاة الرجل وصيامه وانظر إلى عمله إذا أقبل على الدينار والدرهم».
وأما أمانة العمل فتتمثل في قول الرسول عليه الصلاة والسالم لأبي ذر حين طلب توليته الإمارة « إنك يا أبا ذر ضعيف وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» فالأمير مؤتمن على الرعية ومسؤول عنهم، وسيحاسب على تلك الأمانة، إن أدى حقها نجا وإن خان خسر، وما ينطبق على الإمارة ينطبق على الوزارة والوكالة والأمانة العامة والإدارة وكل وظيفة اختص بها الإنسان كبر شأنها أم صغر ولا يظن أحد أن صغر وظيفته يعفيه من مسؤولياتها، فحتى الخادم محاسب، بل إن الصغير أحيانا قد يضلل الموظف الكبير فيوقعه في ظلم لا يقصده، وعلى الموظف الصغير اجتناب الوقوع في عمل غير مشروع بحجة أن الموظف الأكبر منه وقع في مثله، فلن ينجيه يوم الحساب أنه رأى غيره فعل ففعل مثله، فلا يؤخذ يومئذ أحد بجريرة غيره، وكل إنسان مكلف ومسؤول عما يفعل.
كما أن تفشي ظاهرة فساد معينة في المجتمع، لا يصح أن يكون مبررا لمن شاء ارتكابها.
والحياة العائلية كلها أمانة: فالأبناء يجب تربيتهم على الصدق والصلاح، وعلى الزوجين أن يحترم
كل منهما الآخر ويرعى كرامته وأن لا يتعسف أحدهما في استعمال حقوقه التي حفظها له الشرع، وحسن بر الوالدين من الأمانة، وهو رد لجميلهما، وذلك أعظم من رد أمانة المال،
وأمانة المجالس تكون بالحديث فيما يفيد الناس وينفعهم، وأن لا ينقل الإنسان ما يضر المجتمع أو يضر الآخرين، خاصة إذا كان الحديث في حضرة صانع قرار،
والنصيحة أمانة لله ولرسوله ولسائر المؤمنين،
والإنسان مسؤول عما يقول، فالقول أمانة، فإن قال الإنسان خيرا فخيرا وإن شرا فشرا واللسان من أعظم الجوارح خطرا وحساسية، وقد ضمن المصطفى عليه وآله أفضل السلام الجنة لمن حفظ لسانه وفرجه، وهو ليس أمر يسير إلا على من يراقب الله في السر والعلن، ويحفظ لسانه عن الخوض في أعراض الناس وفيما حرم الله « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد»،
ويكفي الكتابة شرفا أن أول ما خلق الله سبحانه القلم وأمره ان يكتب ما هو جار إلى يوم القيامة، ومن عظمة القلم أن أقسم به المولى جل شأنه فتذكر أيها الكاتب سواء كنت كاتبا مشهورا له قدره أو كاتبا مغمورا ، تذكر أن ما تكتبه يبقى بعد رحيلك عن هذه الدنيا شاهدا لك أو عليك،
مر بي تساؤل عن مدى التزام الكاتب بالأمانة، عندما وقعت عيناي مؤخرا على كتاب يتخبط فيه صاحبه في المقارنة بين العلماء المفكرين المسلمين وبين غيرهم من أصحاب الفكر العلماني، وتصنيف المسلم الموحد في زمرة الماركسي الملحد، بل إنه أفرد في كتابه فصلا بعنوان «العلمانية ليست شراً كلها» فهل هذا من الأمانة أم إنه خيانة علمية في البحث والدراسة والاستنتاج والحكم؟!
|
|
|
|
|