2
كان مما تطرّقت إليه الحلقة الماضية من هذه القراءة تسمية الإقليم الذي أصبح يسمى جبل شمّر. وكونه يسمّى بهذا الاسم لايعني، بطبيعة الحال، أن جميع سكانه من قبيلة شمّر. فمن المعلوم أن كثيراً من هؤلاء السكان ينتمون الى قبائل متعددة في طليعتها تميم، وكانت أهم مراكز بني تميم بلدة قفاز، التي كانت في وقت من الأوقات أكبر بلدة في إقليم الجبل كله.
قالت المؤلفة الكريمة )ص139(:
إن البدو يعتبرون الحضر أدنى مكانة. «وكانوا يعزون هذه الدونية الى حقيقة أن الحضر كثيراً ما كانوا ذوي أصول قبيلة مختلطة أو بلا أصل على الإطلاق. وكان الحضر يعدون بأنهم فقدوا نقاء أصلهم نتيجة المصاهرة مع مجموعات غريبة. وكانت مهنة السكان الحضر تزيد في دونيتهم بنظر البدو».
ثم قالت )ص140(:
«ليس لدى الحضر مرويات يفتخرون فيها بشجاعتهم خلال الغزوات وبشيمهم وتسيدهم العسكري».
ولم تعز ما قالته، في الموضعين، إلى أي مصدر. ومن يعرف المجتمع النجدي معرفة كافية يدرك أن ما قالته بعيد عن الصحة؛ وذلك من عدة وجوه:
الأول: أن الأسر المنتسبة إلى قبائل عربية لا ينظر إليها البدو نظرة دونية من حيث الانتماء. ولهذا فإن قبائل البادية تتصاهر مع هذه الأسر.
الثاني: أن الحضر المنتسبين إلى قبائل عربية لا يتصاهرون مع مجموعات لا تنتمي إلى قبائل عربية معروفة.
الثالث: أن بعض المهن التي يزاولها الحاضرة لا يزاولها، عادة، من ينتمون إلى قبائل عربية معروفة. والنادر في هذا وذاك لا حكم له.
وإذا كان البدو يعدون الحضر أدنى مكانة منهم فذلك لأسباب أخرى في طليعتها أنهم يرون أن وسيلة الدفاع الرئيسة لدى الحضر هي الأسوار التي يبنونها حول بلدانهم في حين أن وسيلة الدفاع لدى البدو ظهور الخيل. وهم بذلك يرون أنهم أشجع من الحضر.
ولعل في قصيدة العنقري المشهورة ما يوضح ذلك؛ إذ قال مخاطباً البدوية التي لم ترغب في الزواج به قبل أن يظهر شجاعته:
وراك تزهد يا اريش العين فينا
وتقول خيال القرى زين تصفيح
ترى الظفر ما هو ب للظاعنينا
قسم وهو بين الوجيه المفاليح
البدو واللي بالقرى نازلينا
كلٍ عطاه الله من هبّة الريح
وأما أن الحضر ليس لديهم مرويات يفتخرون بها إلخ فادّعاء بعيد كل البعد عن الصحة. ومن يتتبع شعر الحاضرة الحربي يتضح له ذلك. ولعلّ مما يدحض ادعاءها قول عبيد بن رشيد نفسه:
حضر الجبل والبدو ناتي صليبين
يتلننا جملات سود الجدايل
أثارت المؤلفة الكريمة )ص16( سؤالاً فحواه كيف يمكن لواحة في وسط الصحراء أن تصبح عاصمة إمارة مزدهرة يسودها القانون والنظام؛ إذ كان لدى الرحالة وقتذاك صورة عن الجزيرة بأنها منطقة تسودها قبائل بدوية متنقلة.
ما أكثر ما تصور الرحالة الغربيون من تصورات عن غيرهم ! إن من منهم من عد نفسه مكتشفاً لبلاد ذات حضارة واتصالات بالأمم الأخرى؛ مثل جزيرة العرب، وكأنها مجهولة قبل مجيئهم إليها. لكن الأهم من مسألة تصورات أولئك الرحالة هو أن الكلام السابق يوحي بأنه لم يقم في وسط الصحراء أو وسط الجزيرة العربية الذي معظمه صحراء إمارة يسودها القانون والنظام إلا إمارة آل رشيد. وهذا الأمر حتى كتاب الدكتورة مضاوي يبين عدم صحته. وأي قارئ لكتاب بوركهارت، أو غيره من الكتب المعاصرة له بما في ذلك الكتب المعارضة لدعوة الشيخ محمد والدولة السعودية الأولى التي ناصرت دعوته يتضح له ما وصلت إليه تلك الدولة من ازدهارورسوخ أمن.
ولقد تناولت المؤلفة الكريمة في الفصل الأول من الكتاب الأرض والبشر، أو السكان، في جبل شمّر، فتحدّثت عن طبيعة هذا الإقليم الجغرافية وعن سكانه بصفة عامة، وعن حائل بصفة خاصة. وكان مما ناقشته مفهوم القبيلة وفروعها، متخذة من قبيلة شمّر أساساً لهذه المناقشة. غير أن مما يلفت النظر في حديثها قولها)ص26(:
«الشرارات والحوازم )وربما كان المراد العوازم( رعاة غنم وماعز، لا رعاة إبل».
ومن المعلوم لغوياً أن كلمة «غنم » تشمل الضأن والماعز، لكن بعض الكتاب قد يخفى عليه ذلك. ومن المعروف لدى الكثيرين من أبناء الجزيرة العربية أن إبل الشرارات من أشهر الإبل العربية. ومما يدل على هذا قول الشاعر النابغة عبدالله بن سبيّل:
بنات حرًٍّ فحلوه الشرارات
بالعيش تعنى له جميع البوادي
وقوله :
حرايرأصل جدودهن كاملات
لهن في غربي شفا نجد مسكان
هلهن شرارات عليهن جناة
طلبهن الحاكم وجنّه بكرهان
وبذلك يتضح أن الادعاء بأن الشرارات لم يكونوا أصحاب إبل ادعاء يحتاج إلى إعادة نظر.
قالت المؤلفة الكريمة )ص28(:
«إن شمّر الجنوبيين )تقصد الذين في جبل شمر( كانوا على المذهب الحنفي».
ولم تعز هذا القول إلى أي مصدر. والمعروف أن الذين كانوا في جبل شمّر؛ من حاضرة وبادية، ومن شمر وغيرهم، كانوا على المذهب الحنبلي.
جاء عنوان الفصل الثاني من الكتاب:«غليان في وسط الجزيرة العربية )17441841( »؛ مشتملاً على عناوين فرعية هي : الحركة الوهابية السعوديون يتبنّون الحركة التوسع السعودي الوهابي في الجزيرة العربية 1744 1818 التوسع السعودي الوهابي في جبل شمّر، 1792 رد الفعل العثماني: الغزو المصري الأول 1811 1818 الانبعاث السعودي الضعيف في 1824 جبل شمر بين غزوتين 18181841 صعود آل الرشيد إلى السلطة. وفي حديثها عن كل هذه الأمور: تاريخياً، ما فيه مما يلفت نظر المهتم بتاريخ تلك الفترة.
ومن ذلك:
قالت المؤلفة الكريمة )ص39(:
«إن الشيخ محمد بن عبدالوهاب كان زراعياً حضرياً يزرع النخيل ويربي بعض الماشية في العيينة؛ وهي قرية صغيرة في وسط الجزيرة العربية».
وعزت ذلك إلى أبي حاكمة )وقد أورده المترجم خطأ أبا حكيمة(.
وأبو حاكمة ليس مؤلف الكتاب حتى يعزى إليه؛ بل هو محققه. وعلى أي حال فإن كثيراً مما ذكره مؤلف لمع الشهاب عن الشيخ محمد؛ نسباً، ونشأة، وأسفاراً في طلب العلم، لا يوثق به لأنه واضح الخطأ. والمصادر المقربة من الشيخ لم تذكر ما قاله عنه، هنا، مؤلف اللمع. ومن المعروف أنه ترك العيينة وهو شاب لطلب العلم خارج نجد، ثم عاد إلى نجد حيث أقام مع أسرته في حريملاء، وابتدأ دعوته في هذه البلدة لافي العيينة كما قالت المؤلفة الكريمة )ص40(. ولم يعد إلى العيينة إلا داعية مهتماً بأمور دعوته لا بزراعة نخيل وتربية ماشية.
قالت المؤلفة الكريمة)ص41(: إن محمد بن سعود اشترط لحماية محمد بن عبدالوهاب شرطين:«أولاً: أن لا يتخلى عنه بعد نجاح دعوته وأن لا يبايع أي حاكم آخر في المنطقة. وثانياً: أن لا يتدخل أو يحاول منعه من فرض الإتاوات التي يجبيها الحكام السعوديون من رعاياهم».
وعزت ذلك إلى كل من ابن غنام وابن بشر. أما ابن بشر فقد ورد فيه الجزء الأول مما ذكرته في أولاً، وذكر أن محمد بن سعود قال للشيخ إن لي قانوناً آخذه من أهل الدرعية وقت الثمار. وأما ابن غنام فلم يذكر الشرط الثاني إطلاقاً. لكن المشكلة، هنا ليست مشكلتها وحدها؛ بل مشكلة كل من رجع إلى الكتاب الذي أخرجه الأستاذ الفاضل الدكتورناصر الدين الأسد على أنه تاريخ ابن غنام. وهذا الكتاب ليس التاريخ الحقيقي، الذي ألفه ابن غنام. فلقد اجتهد الدكتور الأسد بتأييد من الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ فأدخل إلى تاريخ ابن غنام أموراً لم يقلها هذا المؤرخ، وإنما هي مأخوذة من تاريخ ابن بشر.
وهذا العمل وإن كان اجتهاداً أصبح مضللاً لكثير من الكتاب والباحثين.
وتاريخ ابن غنام الحقيقي هو طبعة أبي بطين، التي صدرت في القاهرة عام 1368ه .
وقالت المؤلفة الكريمة )ص41(:
«كانت التعاليم الوهابية تشدّد على أهمية ركنين من أركان الإسلام هما الزكاة والجهاد».
ومع أهمية الجهاد في الإسلام لأنه كما ورد في الحديث ذروة سنامه إلا أنه ليس من أركان الإسلام الخمسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. ومن المعروف أن أهم ما شدد عليه الشيخ محمد وأتباعه هو التوحيد؛ وبخاصة توحيد العبادة.
وتابعت المؤلفة الكريمة كلامها قائلة:
«وصف ابن غنام الدرعية في عصر الشرك؛ أي قبل نشر التعاليم الوهابية، بأنها بلدة فقيرة تفتقر إلى الإمدادات الأساسية من الغذاء في حين أنها في عصر التوحيد كانت لديها كميات وفيرة من الغذاء والنقود الذهبية والفضية والخيول والجمال والملابس».
وعزت ذلك إلى ابن غنّام. وابن غنّام، في تاريخه الحقيقي، لم يقل هذا، وإنما قاله ابن بشر.