| مقـالات
الإعلاميات الرسمية
إثر دعوة كريمة من نادي الطائف الأدبي، ألقيت هناك محاضرة في الأسبوع الماضي، ولما أراه مهما في بعض جوانب هذه المحاضرة، أرجو ان يسمح لي القارئ ان اختصر بعض الجزئيات منها، وذلك للنشر في جزيرتنا العزيزة.
الرسمية: إذا كانت المؤسسات الإعلامية في المجتمعات الغربية ترى بأنها مؤسسات مستقلة ولا تقع في دائرة النفوذ الحكومي، بل انها تسعى الى ان تكون مؤسسات منافسة للمؤسسات الاجتماعية الأخرى مثل الحكومة والبرلمان والشرطة والكنيسة والأسرة. فإن الحال في العالم النامي «والدول العربية غير مستثناة» هو في كون المؤسسات الإعلامية التي يفترض ان تقوم بإنتاج وترويج الخطاب السائد تابعة وليست متبوعة للمؤسسات الرسمية. ولهذا عادة ما تقف مؤسسات الإعلام العربية في حيرة من أمرها أمام بعض - أو معظم - الأحداث الجديدة والمواقف السياسية الطارئة، ريثما تتلقى توجيهات او اشارات تستطيع من خلالها استطلاع الرأي الرسمي للحكومة، وبالتالي تتصرف إعلامياً طبقاً لهذا الموقف او هذا التوجه. ولا يكفي في بعض الأحيان ان تقوم هذه المؤسسات باستنتاج الموقف الرسمي من خلال الخبرات السالفة والمواقف السابقة، بل إنها تحتاج الى «المراوحة» الإعلامية في انتظار استجلاء الموقف الرسمي، حتى لو اضطرت الوسيلة - صحيفة او اذاعة او تلفزة - الى اغفال الحدث وتجاهله لمدة زمنية تؤثر على علاقة المؤسسة الإعلامية بمتلقيها، مما يعكس مزيداً من فقدان الثقة مع الوسيلة الإعلامية. ونقصد بالرسمية - تحديداً - ان تكون المؤسسة الإعلامية - اذاعة او تلفزة او صحيفة - حكومية او شبه حكومية او تحت تأثير ونفوذ الحكومة. وانطلاقاً من هذه الرسمية التي تطغى على الوسيلة، فإن حالة الانفكاك بين وحدتي الإعلام الرئيستين الخبر والرأي تزداد صعوبة وتعقيداً. إن فك ارتباط الخبر عن الرأي سيساعد - بلا شك - الوسيلة الإعلامية على الوفاء ببعض التزاماتها الإعلامية بالتحرر من قيود انتظار الرأي الرسمي، وبالتالي يهيئ لها المبادرة في الإعلان عن الحدث، ويعفيها من انتظار تحديد الموقف الرسمي، وعدم ارتهان اعلان الخبر بظهور ذلك الموقف.
المصداقية: وهنا يكون موضوع المصداقية أساساً وسببا في أزمة العلاقة الطرفية بين مؤسستي الإعلام والتلقي.. وتنشأ هذه الأزمة نتيجة بعض الفرضيات الخاطئة التي تعمد على اعتقاد سائد بأن وسائل الإعلام الوطنية تمتلك جمهورها ولا يمكن ان يتأثر هذا الجمهور او يتبعثر وجوده على وسائل أخرى.. إن الواقع الجديد الذي فرضه البث المباشر عبر فضائيات الأقمار الصناعية قد غير هذه الصورة الى الأبد، ولم تعد هناك إمكانية لامتلاك الجمهور او فرض الإقامة الجبرية عليه، بل من الممكن - في أحسن الأحوال - ان تصبح هناك استضافة قصيرة جداً ولنوعية معينة من البرامج.. وليس بالضرورة ايضا أن تسفر هذه الاستضافة عن رضا واستحسان واقتناع من هذا الجمهور، بل انها قد تتحول الى رفض وسخط ونقمة وتحول مستديم الى خيارات إعلامية أخرى.. إن أهم جانب يمكن من خلاله زرع الثقة أو استعادتها في بعض الأحوال يكمن في مجال تطوير الخبر الإعلامي وإعادة صياغته وتقويمه وتحديد أولويات جديدة له تتناسب مع طموحات ورغبات المتلقي.. أما الخبر القديم فلم يعد يتناسب مع تنوع البث الفضائي وتعدد القنوات الإخبارية وسرعة متابعتها وتغطيتها.. إن مفهوم الخبر تغير تماماً عما كان عليه سابقاً.. ويمكن اجمالاً اختصار جوانب التحول في هذا المفهوم على النحو التالي:
1- تغير مفهوم الزمن بالنسبة للخبر.. فقد اعتدنا ان نصافح الأخبار التي انتهت والأحداث التي توارت.. أما اليوم فإن التقنيات الفضائية وفرت لنا معايشة آنية للحدث ومتابعة مباشرة للموضوع.. فها هي طائرة تحترق أمامنا.. وهذا رئيس دولة يتحدث في مؤتمر صحافي.. وهذا اجتماع ينفض.. وها نحن نشاهد الثلوج تسقط ونعيش لحظة اختطاف حية لاحتجاز عدد من الرهائن.. ونرى المدفعيات تضرب.. والأطفال يصرخون والأمهات يبكين.. كل هذا وغير هذا وأكثر من هذا يحدث أمامنا في نفس اللحظة، ودون أن يكون هناك فاصل زمني أو حاجز مكاني.. فالأخبار بمفاهيمها الجديدة ألغت عاملي الزمن والمكان.. وأصبحنا نعيشهما معاً أينما كنا وحيثما أصبحنا.. ولا شك ان المتلقي يبحث عن مثل هذه المعايشة المستمرة للأحداث والتواجد الدائم في كل مكان من خلال القنوات المتاحة.. وكلما استطاعت القنوات الإعلامية المحلية أن توفر له بعضاً أو جزءاً من هذه الخدمات أمكن له أن يستمر في متابعتها والإخلاص لها.. وبالتالي تزيد مصداقيتها لديه وتنمو ثقته بها يوما بعد يوم.
2- نظراً لما وصلت اليه تقنيات الفضاء الإعلامية من متابعة دائمة للأحداث والمواقف، فإن مفاهيم المواعيد الثابتة للأخبار لم تعد تتناسب مع مفاهيم الخبر الجديدة.. ولم يعد هناك متلق مرتبط بالوقت الذي تفرضه عليه محطة من المحطات من أجل ان يعرف ما يدور في هذا العالم.. ولهذا تتجه معظم محطات العالم الى تعويد المتلقي على بث الحدث وإعلان الخبر الهام مباشرة في أي وقت ودون الانتظار للأوقات المعنية للأخبار.. وفي نفس الوقت تقوم هذه المحطات بالإبقاء على المواعيد الثابتة لنشرات أخبارها وبرامجها الاخبارية بهدف تلخيص أهم الأنباء والإعلان عن الأخبار الأقل أهمية وإعطاء التحليل المناسب واستضافة أصحاب القرار للتعليق ومعرفة ردود الفعل.
الخطاب الإعلامي السعودي: الجديد بدأ يتعمق في مضامين ويتكرس في واجهات أجهزة الإعلام السعودية.. وكان قد بدأ فعلاً في حضوره وأخذنا نتعايش معه خلال السنوات الأخيرة الماضية.. ويعد الملك فهد الشخصية الأولى التي صنعت هذا الخطاب وأطرت حدوده.. وبدأت حركة هذا الخطاب في الانبثاق منذ إعلان خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - عن قرب اعلان الأنظمة الأساسية للحكم والوزراء والشورى والمناطق مع مطلع العقد التسعيني الميلادي.
وأعلنت هذه الأنظمة، وتم اعتمادها والعمل بها في السنوات التي تلت ذلك.. والمملكة الآن في مرحلة معايشة روح وفضاء هذه الترتيبات التنظيمية التي اوجدتها هذه الأنظمة. إن النقلة النوعية التي دفعت بها هذه التنظيمات قد تركت فضاءات جديدة يتطلب ملؤها بطروحات وقضايا ومشروعات تتناسب مع حجم حركة التغيير ومساحة الوعي العام ودرجة النضج في التجربة الوطنية، التي تقف مع نهاية قرن كامل من التعليم والعمل والبناء والعطاء المتواصل وبداية قرن جديد من التطلعات والمستقبل والإنجاز. كما يجب ملاحظة ان هناك دفعاً مستمراً من قيادة هذه البلاد لبث روح التجديد في كافة الادارات والاجهزة والهيئات وفق رؤية حديثة تواكب متغيرات الزمن وعجلة التنمية والتقدم وبما لا يخدش كرامة إنسان هذه الأرض او يحط من موروثه الأساسي ومقدراته العقدية.
إن الخطاب الجديد أخذ يدب رويداً رويداً وكلمة كلمة وفكرة فكرة وقضية قضية في تخطيط الوعي وجدولة الاهتمامات وتجسيد الفجوات واستكمال البناءات وتفعيل المؤسسات. وفوق كل شيء تفعيل مؤسسة المواطن التي أصبحت المؤسسة الخامسة او السلطة الخامسة في المجتمع العربي السعودي، بعد السلطات القضائية والتنفيذية والتنظيمية والإعلامية. الخطاب الإعلامي السعودي في المرحلة الحالية هو خطاب جديد في نوعه ودرجته وهو امتداد وانعكاس لما طرأ من تغييرات في طبيعة ووظائف المؤسسة السعودية الحديثة، التي تتطلب - تبعا لذلك - إعادة في التأسيس وتجديداً في الإدراك بمسلمات البناء الوطني الجديد.
|
|
|
|
|