| العالم اليوم
* رام الله نائل نخله:
الساعة تقترب من الثانية عشر والربع ظهرا، يوم الثلاثاء جرس التلفون في المدرسة التي تعمل فيها السيدة يسرى يرن، ترفع المديرة سماعة الهاتف، يتحدث اليها شخص، بصوت خشن، ويتكلم بجدية وبهدوء تام، ويطلب منها التحدث الى المعلمة يسرى ام ضياء لتكون هذه المحادثة القصيرة الاولى والاخيرة، حيث لم يسبق له ان تحادث معها من قبل في المدرسة، ولن يتحدث معها ايضا،
ام ضياء: الو، ، الو
ضياء: السلام عليكم،
أم ضياء: وعليكم السلام، ضياء، وين انت؟
ضياء: انا في بيرزيت،
أم ضياء: خير، شو فيه يا ابني،
ضياء: انا بدي اطمن عليكم،
ام ضياء: انت تطمن علينا ولا إحنا نطمن عليكم،
ضياء: الحمد لله، كل شيء تمام، نويت اتخصص هندسة كهربائية ويتابع ضياء، ، بطلب رضاك وادعو الله لي يا أمي،
أم ضياء: الله يوفقك،
ضياء: السلام عليكم،
ويغلق ضياء سماعة الهاتف ويكون اخر الكلام، لاخر حديث مع امه، واخر همسات ما زالت صوتها يدق في اذن والدته الى هذه اللحظة التي مازالت اثار الصدمة الاولى بادية على وجهها عندما علمت مساء الاربعاء ان ضياء هو ذاك الاستشهادي الذي فجر نفسه في الحافلة الصهيونية بالتلة الفرنسية يوم الثلاثاء من الاسبوع الماضي،
لم تكن تعلم ام ضياء عندما فرحت وشعرت بسعادة غامرة عند سماعها نبأ العملية التفجيرية في قلب مدينة القدس المحتلة ان ابنها وفلذة كبدها ضياء المهندس الذي لطالما حثته على الاهتمام بدروسه وبجامعته، حيث تقول والدته )كان ضياء رحمه الله مهتما جدا بالدين والشريعة، حتى انه طرح علينا فكرة دراسته للشريعة ولكنه عدل عن هذه الفكرة، لقد كان يقضي معظم ايام السنة وهو صائم، ودائما تجده يحمل المصحف بين يديه ويقرأ باطمئنان وسكينة، لقد كان القرآن رفيق دربه حتى انه حفظ مؤخرا وبفترة قياسية ستة اجزاء منه،
ولم تقلق ام ضياء كثيرا على ابنها عندما غاب عن البيت ليلة الثلاثاء لانه كان قد اخبرها نيته المبيت عند احد زملائه في جامعة بيرزيت حيث يسكن لانشغاله باجراءات التسجيل في الجامعة التي تأخذ وقتا طويلا وجهدا مضاعفا، خاصة انه كان عليه ان يحدد هذا الفصل المواد التي سيدرسها في التخصص الجديد،
ولكن تواصل الحديث بين الابن والام لم يدم انقطاعه طويلا، ليوجه حديثا خاصا عبر شريط فيديو الى اهله وابناء شعبه بالقول:
)انا ثاني عشرة استشهاديين اعدتهم كتائب الشهيد عزالدين القسام ليجعلوا من اجسامهم وعظامهم شظايا تذيق الموت للمحتلين الصهاينة لنلحق بركب الشهداء، ركب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ركب عز الدين القسام ويحيى عياش وعوض الله، فالى جنات الخلد يا ابناء القسام(،
مسجد حمزة في منطقة البالوع هو المكان الدافىء الذي كان يلجأ اليه دائما، يحافظ فيه على كل الصلوات، ومن شبه المستحيل ان يكون متواجداً في البيت او المنطقة ولا يشهد فيه الصلاة،
يتحدث أحد من تعرف على ضياء تحت سقف مسجد حمزة عن هدوئه واتزانه، القرآن لا يفارقه، دائم الحديث عن الجنة والشهداء يحب مساعدة الاخرين، ويتابع الصديق الحديث عن فقيده الغالي )احيانا كنت اتوجه الى المسجد قبل اذان الفجر بدقائق، فأجد ضياء وقد اطفأ انوار المسجد ويصلي قيام الليل بخشوع وطمأنينة، لقد كانت ايمانياته عالية جدا(،
عم ضياء الشيخ جمال الطويل وهو احد مبعدي مرج الزهور يتحدث بعاطفة قوية، وكلمات تكاد تخرج من فيه الذي حاول دائما ان يضع امام اندفاع ابن الاخ بعض الكوابح ليخفف من شدة زهده مثل الاهتمام بالدراسة والموازنة بين الدين والحياة والانتباه الى النفس،
ويتابع الطويل )اليوم ادركت انني كنت في قعر الوادي وانا احدثه، ، وضياء كان طائرا يحلق في السماء، احكي معاه، يستمع، ثم يبتسم، لم اكن احس مطلقا بهذا التغير الذي بدى عليه حال ضياء،
والحقيقة اقول انني لم اتوقع ان يكون ضياء احد الاستشهاديين الذين هددت بهم حماس اسرائيل، اننا اليوم نحتسبه عند الله مع الشهداء والانبياء،
حسين الطويل والد الشهيد ضياء الذي يتمتع بجلد كبير وهو يستقبلنا في بيت اخيه ويتحدث الينا عن شعوره عندما اخبر ان ضياء هو الذي نفذ عملية التلة الفرنسية في القدس، شعوره كاي فلسطيني يفتخر بمثل هذه الاعمال البطولية والتضحية لشباب فلسطين، ولكن تبقى عاطفة الابوة التي لابد وان ترق وتضعف امام ذكريات الابناء وآمال الاب بان يرى ابنه مهندسا، ،
ومضى ابو ضياء وقد احاط به صحفي كندي مراسل لراديو كندا الرسمي حيث بدى عليه الاستغراب والدهشة من موقف عائلة ضياء التي ما انفكت على التأكيد على المقاومة والتضحية ليقول: ابني ليس اول شهيد ولا آخر شهيد، كل يوم يسقط فيه شهداء مستدركا انه لم يتوقع في لحظة من اللحظات ان يكون ضياء هو منفذ عملية التلة الفرنسية، بدأت ميول ضياء الاسلامية تنضج ويعلن ولاءه بصورة تامة للدعوة الاسلامية مع انتهاء دراسته الثانوية،
اصبح ضياء في جامعة بيرزيت التي التحق بها بعد التوجيهي احد ابرز نشطاء الكتلة الاسلامية والتحق بركب حركة المقاومة الاسلامية حماس، قرر ضياء خلال دراسته الهندسة في بيرزيت التخصص في هندسة الكهرباء التي تخصص بها من قبله الشهيد المهندس يحيي عياش،
فور اندلاع انتفاضة الاقصى شارك الشهيد ضياء في فعالياتها بصورة دائمة حيث اصيب عدة مرات بالعيارات المطاطية، وكلما اصيب عاد مرة اخرى للمشاركة،
وبدا واضحا لمعارف الشهيد ان المشاركة في مواجهة جنود الاحتلال والمظاهرات والمسيرات لم تلب طموح الشهيد ضياء وهو يرى ابناء شعبه من حوله يسقطون شهداء وجرحى برصاص جنوب الاحتلال،
يقول احد معارفه شاهدت الشهيد خلال المواجهات التي اندلعت مع جنود الاحتلال قرب المدخل الشمالي لمدينة البيرة وقد بدا مرهقا واتسخ وجهه من شدة المواجهات فقلت: يعطيك العافية فأجابني: وهل يكفي هذا!
الكتلة التي لطالما اخلص وتفانى في خدمتها حاولت ان تكرم فارسها ضياء الذي شهدت له ساحات الجامعة بمشاركته الفاعلة بالنشاطات والفعاليات التي كانت تنظمها الكتلة الاسلامية اذ امتلأت ساحات الجامعة باليافطات الكبيرة التي تحمل صورة الشهيد وملأت آيات القرآن الكريم اجواء الجامعة، بعد ذلك اعلن مجلس الطلبة والذي ترأسه الكتلة الاسلامية عن تعليق الدوام لمدة ثلاثة ايام، وبدأت فعاليات المهرجان التأبيني بمسيرة حاشدة كبيرة شارك فيها كل طلبة الجامعة، تقدمها ملثمون من ابناء الكتلة الاسلامية يقرعون الطبول ويرعون صور الشهيد وشهداء الكتائب الاخرين من ابناء الكتلة الاسلامية في الجامعة، ثم قام شاب مكفن بالأذان من نفس المكان الذي كان يؤذن فيه الشهيد ضياء، اذ ان ضياء كان حريصا على اكتساب اجر الأذان وقت كل صلاة تحين وهو في الجامعة واعتبر مؤذن الكتلة الاسلامية التي ثبتت الأذان في الجامعة رغم معارضة ادارة الجامعة، واعلن الشاب المكفن ان ضياء انطلق من هنا من هذا الموقع بعد ان صدح بالله أكبر، كلمة مؤثرة ومعبرة القاها ممثل الكتلة الاسلامية والذي بدأها متسائلا )اي موقف وضعتني فيه يا ضياء، فكيف اقف مثل هذا الموقف أرثيك( ثم ذكر محاسن الشهيد وابرزها التزامه الشديد باسلامه وحبه لكتلته وتفانيه وعطائه وكيف ان الجامعة عرفته باذانه وبصوته وهو يدعو للمشاركة في فعاليات ونشاطات الكتلة الاسلامية وهو يوزع بيانات ونشرات الكتلة ويعلق ملصقاتها،
ثم تحدث ممثل الكتلة الاسلامية عن القساميين وكيف ادخلوا الرعب والموت الى عمق العدو، وكيف اسكنوهم بيوتهم، وكيف حققوا معادلة التوازن فإن كان العدو يفرض علينا الحصار ان كتائب القسام فرضت عليهم منع التجول، ، !! ثم قال ممثل الكتلة الاسلامية: )ان كنت ارثيك بالكلمات وأنت ايها القسامي تكلمت بالدماء والاشلاء فعزاؤنا انك الآن توصل سلامنا ليحيى عياش وعبدالمنعم ابو حميد وخليل الشريف وتقول لهم اننا بقينا على عهدنا لكم نخلف عهدنا ولن نخلفه(،
|
|
|
|
|