ابن رشيد يهاجم الرياض سنة 1320ه:
ثم دخلت سنة 1320ه فخرج من الرياض ببعض جنوده وقوته، وأشاع هو عند الناس أن بينه وبين والده عند الامارة وان عبدالعزيز خرج من الرياض مغاضبا لأبيه، وانحدر الى الكويت فزحف عبدالعزيز ابن رشيد على الرياض، وكان يحمل معه ثمانية سلالم صنعها في بريدة، فلما قرب من الرياض بالليل انتقى من جنده مئتي فارس، ثم انتقى أيضا مئتي رجل يردفون لأهل الخيل، ثم حمل السلالم على جمال، وحمل معهم قِرَب الماء وهو يريد أنهم إذا تسوروا حيطان السور يغير بخيله وجيشه ليبغتهم وهم نائمون.
ومن حسن الصدف أن رجلا يحطب البر ليجلب حطبه على الرياض، وهومن قبيلة السهول، وذلك أنه رأى عبدالعزيز بن رشيد وقومه بعد العصر قاصدين الرياض، فترك حطبه وأخذ يسايره بالخفية من وراء الآكام والجبال، فلما رأى ابن رشيد نزل للمبيت، رمى الحطب عن بعيره، ودفعه الى الرياض يسير حثيثا من الليل، ثم انه وصل الى باب سور الرياض فوجد الباب مغلقا على عادته بالليل ومن خلفه الحراس، ونادى أهل الباب: أنا فلان السهلي افتحوا لي أخبركم: جاكم ابن رشيد! وحينئذ نبهوا الامام عبدالرحمن من نومه وأتى الى الباب وأخبره الرجل بما رأى. ثم أمر الامام على رجاله بجمع الحطب الكثير وان تشعل النار في سطوح المقاصير وفي كل محل عال، ثم أمر أن يجعل في كل سوق ملعب وعرضة وتشب عندهم النيران، فلما رأى ابن رشيد أن النيران قد شبت في سطوح المقاصير وفي المرتفعات من البلد طلب الخيل التي أرسل وأمرها بالرجوع بأن قال لهم :انتذروا أهل البلد وليس لنا عليهم قدرة. ثم ان ابن رشيد حينما أصبح قنّع الرياض بغارة شعواء، وأخذ ما أدركه من ماشية وغيرها وعرف أنه ليس له مطمع ببلد الرياض نفسها وعليها سور ضخم ومن وراء السور أسود كواسر، فأخذت غارته تفترق عن الرياض يمينا وشمالا حتى انتهت الى موضع يقال له صيَّاح على شفير الباطن، ونزل البيرق كله هو وجنوده على صياح، وشرع يقطع في نخيله وأقام فيه 15 خمسة عشر يوما لم يدرك شيئا من الرياض.، بل ان الطمع انقلب يُطلب من جانبه، فمن ذلك أن في الرياض عدة خيل تطلع من الباب في كل صبح وتطارد خيل ابن رشيد وترجع، وقد طاردهم في ذلك اليوم عبدالملك بن الشيخ عبدالله بن عبداللطيف مع خيل الرياض التي تطارد ابن رشيد، ثم ان ابن رشيد ارتحل من حصار الرياض وإذا عبدالعزيز قد استنجد بأهل الحوطة وأهل الحريق. فإنه دخل بلادهم بليل من حيث لا يشعر ابن رشيد بدخوله الحوطة، وكان مع عبدالعزيز ما يزيد على ألف ذلول و250 خيالا، فلما انضمت جموع الحوطة والحريق عليه قويت شوكته، واستعد للهجوم على خصمه عبدالعزيز بن رشيد، وكان ابن رشيد على قرية من قرى الخرج تسمى الدلم، ثم إن عبدالعزيز الرشيد ومن معه نزل موضعا يقال له نعجان، وحصلت بينهم وقعة شديدة انفصلت عن عدة قتلى من الطرفين، وبعدها استخف ابن رشيد ورحل، ونزل على ماء لسبيع يسمى الحسي، وأقام على ذلك الماء ثلاثة شهور، وكانت ركبان عتيبة تحوفه بالليل وتسرق منه خيلا وإبلا وغيرها، ثم انه رحل من الحسي وزحف على شقراء، فصمدوا له وحاربوه، وانتزع الله هيبته من قلوب الناس أجمعين، وحاصرها قريبا من شهر، ورحل عنها ولم يحصل على طائل بعدما أفقدوه خيلا ورجالا.
عبدالعزيز ونجدة مبارك
بن صباح 1321ه:
وأما عبدالعزيز بن سعود فقد دعاه مبارك الصباح ليغزو على مطير الدوشان هو وجابر المبارك الصباح، ثم إنه أجاب دعوة مبارك، واجتمعت عليهم جنود كثيرة، وذلك في مبتدأ سنة 1321ه وتوجهوا من الكويت قاصدين الدويش لأنه عصى ابن صباح وعبث بالأمن في محارم الكويت، فخرجوا من الكويت جميعا؛ الملك عبدالعزيز تحت رايته وجنوده وجابر الصباح على رايته وجنوده، وأمير الكل جابر عقد له الامارة على الجيش مبارك الصباح، فكان عبدالعزيز يمتثل أوامر جابروالرأي مشترك بين الاثنين، ثم إنهم قصدوا جميعا جهة الصُّمَّان. وكان الملك عبدالعزيز حشو ثيابه دهاء ورأيا صائبا ولكنه يتأدب مع جابر، فحين ما قربوا من العرب تلك الضحوة وافاهم رجلان، على مطية واحدة وإذا هم رشايدة، من خدام ابن صباح سابقا وهم نازلون بأهلهم مع الدوشان التي ستقصدهم هذه الجنود، فأوقفوهم يسألونهم عن العرب فلم يعطوهم عن العرب علماً، بل ادعوا أنهم لهم ثمانية أيام عندهم وأن مدة أيامهم هذه وهم يدورون جمالاً ضاعت لهم، وكان دليلة الزعيمين المذكورين مثعي بن هدبا وهو رشيدي من أبناء عم الرجلين وهو والد مشلح بن هدبا الذي هو دليلة الملك عبدالعزيز في شرقي نجد وشمالها، فعذلوهم على أداء الصحيح، فأصروا على ما قالوا سابقا، فقال جابر بن صباح: يا عبدالعزيز هؤلاء رجاجيلنا بني رشيد صدقان ما يكذبون علينا، فحينئذ انفعل عبدالعزيز، وكان متأكدا أنهم كاذبون لما رأى ان ذلولهم سمين بدين ولم يطوها طول السفر، فخلع عباءته من ظهره على الشداد ونزل من المطية مترجلا على الأرض، وعمد الى الرديف فأخذ برجله وجذبه من الذلول جذبة منكرة، ثم قاده بشعر رأسه وأبعد به عن الجيش حتى أتى به على شجر ملتف، فأخذه برجله وصرعه على الأرض، ثم وضع رجله على صدره، وسحب الفرد من بيته وهو معلق على جنبه، ثم ضرب برصاصها الأرض بثلاثة أنداب يورّي من يراه أنه قتله، ثم قال له متهددا: إن كان تحرك منك يد أو رجل أو صوت رجعت إليك وقتلتك شر قتله! فحينما لقنه هذه الكلمات رجع على صاحبه الذي على البعير والفرد في يده فقال: أنت نظرت بعينك أني ذبحت رديفك ووالله لأن لم تعطني الصدق لألحقك برديفك، وكان يقول له هذه الكلمات وهو مصوب الفرد الى دماغه. فقال الرجل من فوره: يا عبدالعزيز أعطني الأمان على أهلي وحلالي فهم مع العرب الذي أنتم قاصدينهم فأعلمك بالصدق، فأعطاه الأمان على أهله وحلاله، فجعل الرجل يقص عليه أسماءهم ومنازلهم وقلهم وكترتهم، وهم بهذاك المكان. فقنع واقتدى بعلمهم ومشوا على ذلك.
وكان دليلهم في تلك الفجاج المذكورة مثعي بن هدباء الرشيدي، وكان له فرق من عشيرته مجاورين للدويش، فأراد أن يبعدهم عن طريق العرب شُحا بعشيرته بأن يقول: اشتبهت علي الأرض يا عبدالعزيز بالليل، وأخاف أخطي مكان العرب، ففطن له عبدالعزيز فتهدده وأقسم له بالله لأن طلع الفجر ولم نصل العرب لأعدمك. فلما تهدده عبدالعزيز بهذه الكلمات القاسية أذعن، ومشى سويا حتى أوردهم العرب، فصبحوهم واجتاحوهم وقتلوا منهم قتلى كثيرة. وكان بين القتلى سبعة فرسان كلهم من الدوشان، ثم انقلبوا جميعا الى الكويت ظافرين منتصرين.
وكانوا حين ما خرجوا من الكويت والقيادة بيد جابر الصباح قد عقدها له والده الشيخ مبارك الصباح رسميا، ولكن جابر حين ما رأى من عبدالعزيز الكفاءة الفائقة والرأي السديد فأطلق القيادة بيده، وكان لها أهلا ولا بدع في ذلك، فقد تجافى جابر عنها مختارا غير مجبر. وأيم الله إنه أعطى القوس باريها، فهو والله ينطبق عليه قول شاعر العرب حين ما كان مقيما عند الفرس ورأى تجهيزهم الهائل لغزوهم على العرب يوم وقعة ذي قار المشهورة، وكان أكثر من حضرها من العرب هم بنو شيبان حين ما التجأت اليهم الحرقة بنت النعمان بن المنذر، فكان كسرى مجدا في طلبها منهم، فلم يسلموها له، فصمم على حربهم والايقاع بهم، فأرسل اليهم شاعر العرب المقيم عندهم بهذه القصيدة يحضهم على الصبر والثبات وأن يقدموا لقيادتهم رئيسا غذته الحرب بلبانها
وجرب حلو الأيام ومرها، فقال:
قوموا جميعا على أمشاط أرجلكم
واستشعروا الصبر لا تستشعروا الجزعا
وقلدوا أمركم لله دركموا
رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
ولا إذا عض مكروه به جزعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
متبِّعا ورده طورا ومتّبِعا
حتى استقامت على شذرِ مريرته
ممستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه
هم يكاد حشاه يقصم الضلعا
ولعمر الله أن هذا الوصف منطبق على عبدالعزيز وأنه لها، ولهذه الخصال كلها، فقد صحبته في عدة من مغازيه وقد رأيت منه ما هالني من الجراءة واحكام التدربي، فكان رحمه الله شرَّادا ورّادا فهو إذا رأى الوردة على عدوه فرصة سانحة ورد غير هيَّات ولا جبان وإن لم ير أن الورود على عدوه لم يأته بنصر ونتيجة أحجم عن عدوه أو أبعد عنه، وسيأتي عنه تفصيل بعد هذا. )و( كل يعرف ويعترف لمهارته وحسن تدبيره في الحروب.
ثم اننا نرجع الى متابعة القصص فنقول: إنه لما استقر في الكويت راجعا من غزوته التي فصلناها آنفاً استأذن من الشيخ مبارك الصباح بالرجوع الى أوطانه وعاصمة مملكته، )و( أذن له وساعده بما سمح به.
ثم ظهر من الكويت قاصدا بلاده ودخلها وكان قد تيقن أن خصمه عبدالعزيز بن رشيد لم يوجه الى الجنوب غازياً له لما رأى من العواكيس والأتعاس التي مُني بها في كل أسفاره، فكان غير موفق في كل أمر يقصده، فهو يأتيه بخلاف ما يريد، وكانت تقول العرب: امرؤ من غير حظ شقي، أيضا وتشقى رعيته بشقاوته:
إذا كان عون الله للمرء مسعفا
تهيا له من كل شيء مراده
فإن لم يكن عون من الله للفتى
فأغلب ما يجني عليه اجتهاده
صدق رسول الله: إن من الشعر لحكمة: ويقول أبوالطيب المتنبي في هذا المعنى هذا البيت: