| عزيزتـي الجزيرة
لم اندهش وانا استمع لبعض القصص التي تحكي عن آباء وأمهات نسيهم ابناؤهم كما نسيهم الزمن في أحضان ساعات انتظار الموت.. وهم يتلوون ألما وحسرة وقهراً على ما أصابهم من فلذات أكبادهم الذين ما زالوا طليقين بما تركه لهم أهلهم من إرث حرموا أنفسهم من التمتع به ليكون لأبنائهم نصيب أوفر من المال والسعادة..
فهذه سيدة تجاوزت السعبين تتكوم على كرسي عتيق بال يفوقها عمراً.. أجبرها أبناؤها على بيع منزلها لاقتسام ثمنه عليهم وأودعوها دار الرعاية حيث لم تعد تملك سوى ترقب الموت الذي تتمناه في أي لحظة.. رغم كل هذا فهي لا تتوقف عن الدعاء لأبنائها وطلب الرحمة لهم من الله في الدنيا كي لا يعاملهم أبناؤهم كما عاملوها.. وفي الآخرة حتى يغفر الله لهم.
وهذا أب افنى عمره في جني ثروة ليحمي بها نفسه من غدر الزمان.. وليتركها لأبنائه بعد وفاته ليكملوا مشوارهم بشيء من الراحة وحتى لا يتعرضوا لما تعرض له من عذاب.. وعندما هده العجز وأثقلت عليه الأيام استصدر الأبناء حكماً على أبيهم بالحجر عليه لعدم مقدرته على إدارة أحواله وأمواله.. واستولوا على كل شيء.
وقذفوا به إلى دار رعاية المسنين.. ينتظر الموت كل يوم.
وكثيرون.. كثيرون كان الموت أسرع اليهم من زيارة أبنائهم وقضوا متحسرين على هذه النهاية المفجعة.
نعم لم اندهش لهذه القصص لاني اعرف شخصيا العديد من المآسي التي تقشعر لها الأبدان ويندى لها جبين الانسانية عاراً وخذلاناً .. وتحدث أمام أعيننا لآباء وأمهات سعوديين... أو غير سعوديين.. على الرغم من أن كتابنا الكريم يذخر بالنهي من عقوق الوالدين.. وقد قال تعالى في كتابه العزيز )ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا( لقد نهى الله سبحانه وتعالى عن التلفظ بكملة )أف( وهي كلمة من حرفين مخففين لا تكاد الشفتين تشعر بهما عند لفظهما.. براً بالوالدين.. واجلالاً لهما.
ان المسلم يردد في كل صلاة يؤديها دعاء بأن يغفر الله له ولوالديه وأن يرحمهما كما ربياه صغيراً... وان يجزيهما عن الاحسان احسانا وعن السيئات غفرانا.. تقرباً إلى الله.. وتواصلاً معه بواسطة ابويه.. ومع ذلك فإن الحياة الدنيا بزخرفها وزينتها وغوايتها تأخذه من والديه.. وتحوله إلى وحش بشري عاق..
روى لي أحد الاصدقاء أن أخوة أربعة اتفقوا فيما بينهم على استضافة أمهم العجوز أسبوعا عند كل واحد منهم.. وفي إحدى المرات اضطر أحدهم ان يأخذ امه الى شقيقه في غير الأسبوع المخصص له.. فما كان من الشقيق إلا أن قال: ليس هذا دوري فلماذا تحضرها إلي...؟ لقد كانت هذه الكلمة التي وقعت على الأم وقع السيف في العنق.. هي السبب في موتها قهراً.. وحزناً على نفسها وعلى مصيرها.. من أعز الناس إليها.. بعد أن حملته في بطنها تسعة اشهر.. ثم ارضعته .. ثم احتضنته فكان سبباً في موت من كانت سبباً في حياته.
رواية اخرى رواها صديق آخر.. ما زالت تحدث حتى يومنا هذا.. حيث يرتكب ابن عاق جريمة قتل يومية بحق والديه العجوزين اللذين لم يعودا يملكان من حطام الدنيا ما يسد رمقهما..
لقد تزوج الشاب واحضر الزوجة إلى منزل والديه.. وعاش سنوات مع أبنائه.. انتهت بطرد الوالدين بتحريض من الزوجة الفاسدة.. واضطرا للسكن في أحد الملاحق.. لتبدأ رحلة عذاب أخرى اشد وامر من المرحلة الاولى واستطاعت الزوجة بدهائها ومكرها أن تجعل الابن المسلوب الإرادة يتنكر أكثر وأكثر لوالديه العجوزين.. ويعيش الوالدان في حيرة من أمرهما بين أن يلجآ للقضاء لاستصدار حكم يكفل لهم انتظاراً كريماً للموت.. وبين تكليف الابن بهذا الواجب بواسطة القضاء وانتهى بهما الأمر إلى الرضوخ للأمر الواقع بانتظار ان يأخذ الله امانتهما في أقرب فرصة.. ومع ذلك هما لا ينسيان التضرع رلى الله عز وجل أن يقي ابنهما العثرات وأن لا يجعل نهايته في أيدي أبنائه شبيهة بنهايتهما.. وتحضرني في هذه المناسبة قصة.. لاحد الابناء، كان عندما يغضب من أبيه يحمله إلى خارج المنزل.. ويتركه هنالك الى ان تهدأ ثائرته.. وعندما كبر الابن وتزوج وأصبح أبا.. وأصبح ابنه شاباً يافعاً.. بدا الابن يمارس نفس الدور الذي كان يمارسه أبوه مع جده، وذات مرة حمل أباه ووضعه في السيارة.. ليبعده عن البيت.. وعندها قال الأب لا تبتعد أكثر فقد كنت أضع والدي في مكان غير بعيد عندما اغضب منه.
إن مثل هولاء الأبناء يجب أن يلقوا العقاب الرادع الذي يستحقونه في الدنيا قبل الآخرة حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر.
ويقول أحد الآباء بشيء من الحسرة والحزن.. لقد اصبحت اخشى من أولادي.. هل أنفق عليهم ما املك في تربيتهم وتعليمهم حتى يقذفوا بي في الشارع عندما يكبرون وعندما أصبح خالي الوفاض وصفر اليدين. أم أخبئ أموالي لكي تكون عوناً لي في عجزي وعندما يتنكر لي أبنائي!!؟
إنها مخاوف أصبحت مشروعة لكل الآباء والأمهات.. خاصة في وقتنا الحالي بعد أن ذابت الحواجز بين الأهل وأبنائهم وغابت هيبة الاباء بسبب ما يسمى بعلم التربية الحديث الذي اسأنا فهمه كما اسأنا فهم غيره من العلوم الحديثة.
لقد كنا نخشى آباءنا ونهابهم لأنهم كانوا يحتفظون بمكانتهم .. ولا يختلطون بنا.. ولا يكلموننا إلا بالأوامر.. ولا نملك أمامهم إلا الرضوخ والطاعة.. ولهذا ظللنا نجلهم ونحترمهم ونقدرهم ونسعى لارضائهم بشتى الطرق حتى نكسب محبتهم، اما علم التربية الحديث.. خاصة إذا لم نحسن فهمه ولم نحسن تطبيقه فإنه يزيل الهالة التي تحيط عادة بالأهل وتسمح للأبناء بالتطاول عليهم.. وبالتالي تؤدي ربما فيا حدى ال حالات الى احتقارهم ونبذهم والتنكر لهم بمناسبة وبدون مناسبة.
إن علماء الاجتماع مطالبون اليوم بالتصدي لهذه المشكلة الخطيرة.. والبحث عن مثل هذه الحالات ورفعها إلى الجهات المختصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحق الأبناء العاقين.. دون العودة الى رأي الأهل لأنهم من الطبيعي أن يحموا أبناءهم وأن يدعوا بأنهم يلقون الرعاية اللازمة لإنقاذهم. إنها مشكلة خطيرة.. وجريمة يجب أن يعاقب عليها في الأرض قبل السماء، والله من وراء القصد.
مالك ناصر درار
|
|
|
|
|