| بحوث ودراسات
بقلم: معالي الدكتور عبد الله بن عبدالمحسن التركي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى اثره، واتبع سنته الى يوم الدين.
أما بعد فقد قضى الله سبحانه وتعالى ان تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، وان يشرع بها للعالمين شريعة كاملة يواجه بها المسلمون كل مشكلة الى ان يرث الله الارض ومن عليها، وجعل ذلك من اعظم نعمه على عباده )اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا(، وقال سبحانه في منته على المؤمنين، ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: )لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين(.
فكانت بعثته - صلى الله عليه وسلم المنة العظمى على بني الانسانية أنزل عليه الكتاب والحكمة، فبلغ ما أنزل إليه وعلم الناس القرآن وبينه لهم، استجابة لقول الله تبارك وتعالى: )وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون(.
فكانت السنة القولية والفعلية والتقريرية المصدر الثاني لشريعة الاسلام بيانا للقرآن ومستقلة أحيانا بالتشريع والأحكام.
وحفظ الله هذا الدين بحفظ كتابه الكريم: )انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون(.
وتناقل المسلمون جيلا بعد جيل كتاب ربهم وسنة نبيهم نقلا متواترا بالنسبة للقرآن وثابتا ممحصة اسانيده ومتونه بالنسبة للحديث النبوي، حتى اشتهر ان امة محمد صلى الله عليه وسلم هي أمة الإسناد وأن الإسناد من الدين، وتميز المسلمون في علومهم بالحديث ومصطلحه الذي لم يجرؤ أعداء الاسلام والمسلمين على ان يقدحوا فيه بل اعترفوا وسلموا بصحته منهجيا، وبتميز المسلمين به.
وبذلك حفظ الدين قرآنا وحديثا الى يومنا الحاضر وسيبقى كذلك بفضل الله ومنته تحقيقا لما ثبت في الكتاب والسنة.
ان جهود الأئمة الاعلام في جمع الحديث النبوي وتمحيص رجاله ومتونه، وحفظه وتصنيفه وخدمته تعلما وتعليما وتصنيفا وشرحا جهود عظيمة ومعروفة لكل متصل بالثقافة الاسلامية وعلوم المسلمين.
وان الواجب على أمة الاسلام ان تستمر جهود علمائها في هذا الميدان ومن اعظم ما تتطلع اليه نفوسهم اصدار موسوعة الحديث النبوي اصدارا علميا من حيث التحقيق والاخراج وتيسير استفادة الناس منها بأيسر طريق والاستفادة مما جد في عالم التقنيات.
وقد فكر في هذه الموسوعة وسعى الى اخراجها العديد من الشخصيات والمراكز العلمية والهيئات في العالم الاسلامي ولا تزال الجهود متتابعة ومستمرة وحري ان تبذل اقصى الجهود لخدمة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن المؤسسات العريقة التي اهتمت بهذا الامر مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر وقد اتصل بي صاحبها الأخ الفاضل الأستاذ رضوان بن ابراهيم دعبول، في عام )1411هـ(، وكنت وقتئذ مديرا لجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، فعرض علي الفكرة، وما لديه من دراسة حول الموضوع، ورغب الي التعاون معه في المشروع، والاشراف على اصدار الموسوعة، فتمت دراسة الخطة المبدئية، والاتفاق على الكيفية التي سيكون عليها العمل، ورؤي من المصلحة الاتجاه أولا الى تحقيق أمهات كتب السنة، المسانيد، والجوامع، والسنن، تحقيقا علميا، بجمع مخطوطاتها ومطبوعاتها، والدراسات والبحوث التي تمت بشأنها، والاستعانة بأفضل الكفايات العلمية، وأصحاب الخبرة في هذا الميدان وان تكون البداية بمسند الامام أحمد بن حنبل رحمه الله نظرا لمكانة هذا المسند المتميزة.
ولمعرفتي بما يتطلبه إصدار هذه الموسوعات من جهود علمية ومالية، لكي تتكامل وتصل الى طلاب العلم والمعرفة، ودور العلم والبحث، وذلك من خلال تجارب العديد من الهيئات والأفراد في هذا المجال، والذين كانت تتعثر جهودهم في هذا المضمار وانه لا يكفي وضع الخطط والرغبة في اصدار الموسوعة، ولا توفر الباحثين والخبراء، بل ان تمويل هذه المشاريع الكبيرة، والتي تستغرق جهدا ووقتا طويلين، يعد أهم عقبة امام اصدارها لذلك توجهت الى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله، ونصر به دينه، فعرضت عليه الأمر وضخامته وأهميته، وانه لا يمكن ان يتحقق بدون دعمه وعونه للقائمين عليه فما كان منه - أيده الله - الا ان شجع ووجه وحث على المضي في هذا العمل مهما يطل الوقت، وأوصاني بالصبر والمثابرة، - اجزل الله له المثوبة لقاء نصره لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم - فوجه بتحمل نفقات توزيع المسند على طلاب العلم والهيئات العلمية على نفقته الخاصة.
وبدىء في المشروع وانطلق بفضل من الله وتوفيق، وصدر أول جزء منه في عام )1416هـ( واستمر العمل فيه الى ان انتهى بفضل الله ومَنِّه في عام )1421هـ(، وبلغ عدد مجلداته خمسين مجلدا، منها خمسة مجلدات فهارس ومجموع صفحاته )26352( صفحة، ومجموع احاديثه )27647( حديثا، وصدر بمقدمة ضافية، فصل فيها القول في الاصول المعتمدة في التحقيق، وأماكن وجودها، وبيان قيمتها، وفي ذكر خصائص المسند، وما يتميز به عن غيره من الكتب الحديثية مع ترجمة مختصرة للامام أحمد رحمه الله، ذكر فيها مجمل حياته العلمية.
ان خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ذخرا للاسلام والمسلمين - يشجع مثل هذه الجهود، انطلاقا مما يؤمن به من أهمية خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية بها وتيسيرها لطلاب العلم، ابتغاء مرضاة الله وتيسيرا على المسلمين الاتصال بسنة نبيهم وسيرته والتأسي به، والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، وهذه سنة حميدة سار عليها ائمة الدولة السعودية منذ تأسيسها الاول على يد الامام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله، الذي ناصر وأيد دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وقد كان للامام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، موحد المملكة وباني نهضتها الحديثة اليد الطولى في هذا الميدان، حتى أطلق عليه علماء المسلمين لقب: ناصر السنة وقامع البدعة، فقد كان العون الحقيقي للمشتغلين في عصره بكتب السنة بخاصة، والعلوم الاسلامية بعامة، فليس غريبا على خادم الحرمين الشريفين ان يشجع هذه الاعمال ويدعمها وان المناسبة لتدعوني الى شكر صاحب السمو الملكي الامير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود الذي تابع باهتمام إصدار هذه الموسوعة تحقيقا لتوجيهات والد الجميع خادم الحرمين الشريفين فجزى الله الجميع أحسن الجزاء وأمد خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني وأعوانهم، بالعون والتوفيق لمتابعة مسيرة البناء، والحراسة لهذا الدين وعلومه، وحضارته.
لقد استغرق العمل في اصدار هذا المسند عشرة أعوام بذل فيها كل من له علاقة به جهده، كاتب هذه الأسطر اشرافا ومتابعة وتعاونا على الخير وصاحب مؤسسة الرسالة، تخطيطا وتنفيذا ومتابعة، والعديد من المؤسسات العلمية والمكتبات والمراكز التي تعاونت في تصوير المخطوطات وتقديم المعلومات وفي مقدمتها المكتبات العامة في المملكة العربية السعودية، ومكتبات الجامعات، ومراكز البحوث فيها وبخاصة مركز السنة والسيرة النبوية في الجامعة الاسلامية في المدينة النبوية.
ان العمل في مسند الامام احمد عمل ضخم تطلب ان يشترك فيه عدد من الشخصيات العلمية المتميزة ومن ابرزهم الشيخ شعيب الأرنؤوط الذي اشرف على التحقيق، وشارك في بعضه، وكان للمشايخ محمد نعيم العرقسوسي وابراهيم الزيبق، وعادل مرشد مشاركة رئيسية في التحقيق اضافة الى اسهام الاساتذة التالية اسماؤهم في التحقيق: محمد رضوان العرقسوسي، وكامل محمد الخراط، وسعيد اللحام، وهيثم عبد الغفور، ومحمد انس الخن، ومحمد بركات، وجمال عبد اللطيف، وعبد اللطيف حرز الله، واحمد برهوم.
وممن أسهم اسهاما بارزا في وضع أسس التحقيق ومراجعة الاجزاء الاولى من المسند الاستاذان الفاضلان: الدكتور احمد معبد، والدكتور محمود ميرة.
وهناك جهات وشخصيات كان لها جهدها وتعاونها في هذا العمل الاسلامي الكبير، تستحق الشكر والثناء والدعاء بأن يعظم الله لكل منهم الاجر والمثوبة وان يجعل العمل خالصا لوجهه الكريم متقبلا عنده.
لقد قال الحافظ الذهبي، رحمه الله: )فلعل الله يقيض لهذا الديوان العظيم - يعني المسند - من يرتبه ويهذبه، ويحذف ما كرر فيه، ويصلح ما تصحف، ويوضح حال كثير من رجاله، وينبه على مرسله، ويوهن ما ينبغي من مناكيره، ويرتب الصحابة على المعجم، وكذلك اصحابه على المعجم ويرمز على رؤوس الحديث بأسماء الكتب الستة( أ.هـ.
ولعل كثيرا مما عناه الذهبي رحمه الله في هذه المقالة قد تحقق في هذه الطبعة، ولا يعني ذلك الزعم بكمال العمل، فالكمال صعب، ومن ذا الذي يعرى من الأوهام، خاصة وان كتابا كالمسند يضم قريبا من ثمانية وعشرين ألف حديث بمكرراتها لا يمكن ان يحاط بها احاطة تامة، الا اذا جمعت طرقها وما قيل فيها، ولذلك فاني ادعو طلاب العلم والمستفيدين من هذا الديوان العظيم، ان يتعاونوا على البر والتقوى، ويتفحصوا هذه الطبعة، ويتفضلوا بتزويد المؤسسة التي أصدرتها بما يجدونه من ملحوظات، وان المؤسسة عازمة على مراجعة العمل مراجعة كاملة، بتتبع أطراف كل حديث في مظانها، واستدراك ما فات المحققين التنبيه له، وتلافي أي ملاحظة او خطأ يتبين للمراجعين واخراج ذلك في مجلد خاص به، وستستفيد المؤسسة في ذلك من كل ملاحظة مخلصة نافعة.
المسند وهذه الطبعة:
ان مسند الامام احمد بن حنبل من أكبر المسانيد الحديثية، فقد بلغت أحاديثه )27647( حديثا، ولا يوجد بين أيدينا ما يضاهي هذا العدد من الكتب المؤلفة في هذا الفن.
وأحاديث المسند منها الصحيح، والحسن، والضعيف، والأحاديث الضعيفة فيه ضعفها خفيف، وهي تصلح للاعتبار والمتابعات والشواهد وقد اعتمد عليها العلماء في تقوية احاديث كثيرة تنزل عن رتبة الصحة، ثم ان هذه الاحاديث فيها كثير من احاديث الرقائق والمناقب، وفضائل الاعمال مما هو خارج عن دائرة الأحكام الشرعية، وهذا النوع قد أجاز روايته والأخذ به بعض العلماء وأئمة الحديث.
على ان الامام احمد نفسه رحمه الله كان يرى الاخذ بالحديث الضعيف في الاحكام الشرعية، اذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، ويرجحه على الرأي.
وأما قيمة المسند، فتعود لعدة اعتبارات:
1- ان الامام احمد ذو اسناد عال في الرواية حيث لا يتجاوز اسناده الى النبي صلى الله عليه وسلم غالبا خمسة رواة، وبعضها ثلاثيات افردها بعض الأئمة بالتصنيف والامام احمد هو شيخ البخاري ومسلم وابي داود وغيرهم من اهل الرواية.
2- ان الامام احمد كان قد اتقن ثلاثة علوم اساسية، وبرز فيها حتى اصبح في كل منها اماما يشار اليه وهي:
أ - الرواية، ب - النقد والعلل، ج - الفقه.
3- كثرة الأحاديث في المسند بحيث يستوعب مافي دواوين السنة ويزيد عليها.
4- ان المسند كان ولا يزال مرجع علماء الحنابلة وغيرهم من المحدثين والفقهاء من المذاهب الاخرى، يرجعون اليه على توالي العصور، يقرؤونه ويفيدون منه ويستدلون به ويعزون اليه ويحتفلون بخدمته فمنهم من أفرد رجاله ممن لا يوجد في اسانيد الكتب الستة، ومنهم من افرد زوائده على الكتب الستة، ومنهم من رتبه وشرحه وتكلم على اعرابه ومشكله.
ما تتميز به هذه الطبعة:
لقد يسر الله تعالى - وله المنة - اتمام العمل في مسند الامام احمد رحمه الله وكان العمل به قد بدأ قبل عقد من السنين مرت شهوره وسنواته في جهد متواصل لخدمة هذا الكتاب بما يتناسب ومنزلة السنة في الاسلام.
وقد غبر زمان على المسند كان المعول فيه على الطبعة الميمنية ذات الاجزاء الستة التي طبعت في مصر سنة 1313هـ/1895م، على ما فيها من التحريف والسقط واضطراب الاسانيد، وظلت قلوب محبي السنة تهفو لخدمة هذا الاثر الجليل حتى نهد له عالم كبير من نحو ستين سنة هو الشيخ العلامة احمد شاكر )ت 1377( رحمه الله، وجزاه عن الاسلام خيرا فحقق منه نحو ثلث الكتاب في خمس وعشرين سنة، ثم قضى رحمه الله دون ان يتيسر له اتمامه وتعثرت الجهود بعده ما بين اكمال لعمله على غير نهجه او اعادة صف الطبعة الميمنية بحرف جديد على ورق جديد على ما فيها من اخطاء.
وكان من توفيق الله تعالى لمؤسسة الرسالة ان تهيأت لها الأسباب لاخراج طبعة محققة تحقيقا علميا من هذا المسند العظيم، واول هذه الأسباب توافر نسخ خطية نفيسة منه قرأها وعارضها على اصول جياد علماء كبار، واعني بذلك نسخة العلامة المحدث عبد الله بن سالم البصري، المكي مولدا ووفاة )ت 1134(، ذلك العالم الذي عرف في عصره بدقة ضبطه واتقانه وعنايته بالكتب الستة وبالمسند، فقد كان المسند قبله قد تفرق اجزاء فجمعه الشيخ عبد الله بن سالم وصحح منه نسخة صارت كعبة لمن أمَّها كما وصفها الشيخ احمد بن ادريس الصعيدي المكي وقد نقل عنها العلماء نسخا سارت في الآفاق وكان ابنه سالم ارسل نسخة منه الى جامع مصر، وعلى هذه النسخة اعتمدت مؤسسة الرسالة في تحقيقها للمسند ولكنها لم تعثر الا على مجلدين منها.
وتم الاطلاع على النسخ التي تضمها المكتبة الظاهرية بدمشق وهي نسخ متقنة قرأها المقادسة الحنابلة في صالحية دمشق علي حنبل بن عبد الله المكبر، آخر رواة المسند عن ابن الحصين، وابن الحصين هو الذي اشتهر المسند من روايته وذاع في جميع البلدان الى جانب نسخ اخرى وصفت في مقدمة الجزء الاول، ويمكن القول: ان المتن بهذه النسخ قد خدم خدمة كبرى، وعري من الاخطاء والاوهام ان شاء الله تعالى، فقد تمت مقابلته مقابلة دقيقة على هذه النسخ، واثبتت الفروق المهمة، واشير الى روايات هذه الفروق ان وجدت، وضبط النص من بعد ضبطا تاما مع ما يشكل من اسماء الرواة.
وقد ساعد في ذلك اتم مساعدة حاشية نفيسة للعلامة السندي، شرح فيها مسند الامام احمد وضبط كلماته ضبط حروف ووجه قراءاته بما تقتضيه قواعد العربية، ونشر فيه فوائد فقهية أزالت اللبس عن بعض معانيه.
وللتدليل على أهمية ضبطه في كشف الصواب نضرب مثلا واحدا: ففي الرواية رقم )16469( لفظ يتوقف على قراءته معرفة تعارض الروايات فيمن يمسح رأسه في الوضوء هل يمسحه بماء جديد او بما بقي من فضل يده؟ وهذا اللفظ هو )غبر( وقد اضطربت النسخ في ضبطه بين )غبر( و)غير( يعني بالباء الموحدة ام الياء المثناة من تحت وقد جوّد السندي ضبطه فقال: )بغين وباء موحدة، على صيغة الماضي، أي: بقي( بهذا الضبط الواضح ازال كل غموض في الرواية وهدى الى وجه الصواب فيها، وقد استفيد من ضبطه هذا في الحكم على الرواية وتبيُّن من أخطأ فيها.
أما الأسانيد، فقد عرضت على )اطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي( للحافظ ابن حجر، وقد اعتمد في بداية العمل على نسخة مصورة منه، ثم اخرجه محققا تحقيقا متقنا الدكتور زهير الناصر، فاعتمد على طبعته وقد أفاد الكتاب كثيرا في تقويم الاسانيد واصلاح خللها كما في اسناد الرواية رقم )15819(، وان كان بعضها قد تسرب الخلل فيها الى )الاطراف( نفسه، كما في اسناد الرواية رقم )18724( فأبقي على حاله واجتهد في تقويمه في التعليق عليه وله نظائر.
أما الأسانيد التي رواها الامام أحمد ولها طرق في الكتب الستة، فقد عرضت اسانيدها كذلك على )تحفة الأشراف( للحافظ المزي، ومن ثم تم - بحمد الله - الاطمئنان الى سلامة الاسانيد والمتون.
أما الحكم على الأسانيد بما يليق بها من صحة أو حسن او ضعف، فدونه مصاعب جمة، منها استقصاء اقوال أئمة الجرح والتعديل في الراوي ودراسة اتصال السند خوف تدليس او انقطاع وتعيين الراوي ان كان مبهما او غير منسوب ثم الاطلاع على اقوال الأئمة في اعلاله ثم معارضة الحديث بباقي الروايات خوف شذوذ او نكارة فيه الى غير ذلك من امور يعرفها المشتغل بالحديث.
وتجنبا للخطأ ما أمكن تم تجميع أطراف الحديث ومكرراته في المسند، ودراستها معا للحكم عليها وعزز ذلك بالتماس شواهد له، وتم التوسع بسرد احاديث الباب ومع ذلك يبقى في الحكم على الحديث تفاوت في النظر بين المشتغلين به، وغاية ما فيه انه امر اجتهادي يؤجر فيه المخطىء والمصيب ان شاء الله ان استفرغ الوسع في اصابة الصواب.
ونسوق أمثلة لبعض الأحاديث التي مرت في المسند نرجو ان يكون المحققون قد أصابوا فيها وقد يتبدى في بعضها ما بذل من جهد، يرجى الاجر فيه ان شاء الله وأكثر ما وقف المحققون عليه احاديث المدلسين فبعض المدلسين لا يكفي تصريحه بالسماع حتى يصبح حديثه فقد يكون في حديثه نكارة تدفع هذه الصحة ففي الرواية )18906( ورد تصريح محمد بن اسحاق بسماعه من الزهري عند ابي داود الا ان في المتن نكارة خفيت على من اشتغل بهذا الحديث من قبل فحكم بحسنه فجهد المحققون في تتبع طرق ابن اسحاق ليقفوا على اثبات هذا التصريح فاذا بالطرق كلام والصحيح فيه عن الزهري انه من بلاغاته وبلاغاته واهية كما هو معروف.
وكذلك قد يتفرد مدلس صرح بالسماع برفع حديث، والصحيح وقفه كما في الرواية )6187( فقد صرح فيها محمد بن اسحاق راوي الحديث بسماعه من نافع الا انه تفرد برفع الحديث، وخالف من هو أوثق منه وأحفظ فرواه موقوفا وهو الصحيح وقد بين ذلك في الرواية )4741(.
وقد ينفرد المدلس بلفظ لا يتابعه فيه احد كما في الرواية )5524( ففي اسنادها ابو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس وقد صرح بالسماع الا انه انفرد بلفظ فيها لم يتابعه فيه احد وابو الزبير ليس بحجة فيما خالف فيه.
وكثيرا ما كان الأئمة يحكمون على اسناد بعلة لم يتبينها المحققون الا بعد تفتيش وتنقير ففي الرواية )3712( حكم الدار قطني على اسنادها بالضعف اذ في اسنادها ابو سلمة الجهني احد المجاهيل وقد صحح هذا الاسناد بعض المشتغلين بالحديث معينا ابا سلمة الجهني المجهول بأنه موسى الجهني الراوي الثقة، وقد تم تتبع ترجمة ابي سلمة الجهني وسبر اقوال الائمة فيها ودرسها دراسة دقيقة حتى تبين انهم يفرقون حقا بينهما وانهما راويان، ابو سلمة مجهول - وهو راوي هذا الاسناد والآخر موسى الجهني من رجال التهذيب، وهو ثقة، وقد وَهِلَ من جعلهما واحدا وانه موسى الجهني.
وقد يكون ظاهر الاسناد الصحة، وصحيحه مرسل، كما في الرواية )4609(، ففي اسنادها معمر بن راشد الأزدي وقد رواه مرة موصولا فأخطأ فيه ومرة مرسلا وهو الصحيح ومعروف ان معمر كان يحدث في اليمن من كتبه فلا يقع له الوهم واما ما حدث به خارج اليمن فكان يحدث به من حفظه فيقع له بعض الوهم والرواية التي في المسند كانت من رواية اسماعيل ابن علية عنه وهو مما اخطأ فيه لانه حدث به خارج اليمن لكن وردت متصلة كذلك في )مصنف( عبد الرزاق وهو من سمع منه باليمن وقد وقف المحققون - بحمد الله - على نص عند ابن عبد البر في )الاستذكار( فيه تصريح عبد الرزاق ان معمرا لم يسند لهم هذا الحديث، فارتفع الاشكال، وهذا يعني ان رواية )المصنف( اما خطأ من الناسخ او خطأ من راوي )المصنف( عن عبد الرزاق.
وقد يكون الاسناد صحيحا الا ان فيه لفظا شاذا كما في الرواية )5492( فقد ذكر فيها مواقيت الحج ومنها )ولأهل العراق ذات عرق( وهو لفظ شاذ وقد بين شذوذه في التعليق المطول عليها.
وبعض الاسانيد نص على تضعيفها الا ان فيها اوهاما في تعيين رواتها فتم التنبيه على ذلك، كما في الرواية )4880( فقد اوردها الحافظ من جملة الروايات التي فيها ضعف شديد في كتابه )القول المسدد( الا انه وقع له فيها اوهام نبه عليها في التعليق وبين وجه الصواب في بعض الاقوال التي قيلت فيها.
وثمة طرق ذكرت في تخريج الاحاديث نبه على ما فيها كما في الرواية )5814( ففيها نهيه صلى الله عليه وسلم عن طروق النساء الليلة التي يأتي فيها وهو حديث ضعيف وبعضهم يسوق في تفسير حديث ابن عباس الذي رواه الدارمي والبزار والطبراني من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا ولفظه عند الدارمي: )لا تطرقوا النساء ليلا( قال: واقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا فانساق رجلان الى اهليهما وكلاهما وجد مع امرأته رجلا فقد بين ضعف هذه الرواية ونكارتها وأنها لا تقوم حجة في تعليل كراهة طروق الرجل اهله ليلا وبين التعليل الصحيح لذلك.
وفي كل ما ذكر وما في بابته كان سبيل المحققين للوقوف على علته هو تتبع أقوال الأئمة فيه ومحاولة فهمها والتدليل عليها، ومن المؤسف ان من المشتغلين بالحديث في عصرنا من يرد اقوال الأئمة، ويتعالى عليها، وكأنهم يدركون من علل الحديث ما لم يدركه الأئمة ويتناسون اننا عالة على اقوالهم وانهم هم الذين وطؤوا لنا هذا السبيل بسبر المرويات ومعارضتها ببعضها مع ما عرف عنهم من دقة وورع وسعة رواية وحسن دراية، ولبيان منهج تحقيق ذلك في هذه الطبعة مزيدا من البيان يمكن الاطلاع على التعليق على ترجمة ابي عبد الله الصنابحي في الجزء 31/409 - 412، فقد بين فيه الخلاف بين من قال: انه صحابي وبين من عده من التابعين وبين القول الراجح من المرجوح، وذلك من خلال دراسة الأسانيد وفهم اقوال الأئمة وقد تبين بعد بجلاء وهاء قول من خالفهم ومن هذه البابة ايضا ما علق به على الرواية )3712( و )16469( وقد تبينت اخطاء واوهام وقع فيها من سبق الى دراسة الحديث والتعليق عليه فيما نشر من دواوين السنة، فنبه الى بعض هذه الاوهام والاخطاء التي لا يحسن السكوت عنها بعبارة عفة ولفظ مهذب مع التقيد بأدب الاسلام في الحوار وتنزيه كتب السنة عما لا يليق بها.
والآن وقد انتهى العمل في هذا الديوان العظيم وصدر في خمسين مجلدا فإننا نسأل الله ان يكون فيه خدمة خالصة لوجه الله للاسلام والمسلمين وان يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
)ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم(
)ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين(.
|
|
|
|
|