| مقـالات
قال أبو عبدالرحمن: لا مجال للميتافيزيقا بمعناها الرديإ عن أَوَّلية نشأة اللغات، لأن من كان معه ضرورات الشرع لا يتطرق إليه الرجم بالظن، والتعلق بالمحال أو الممكن غير المتعيِّن، فالله خلق الإنسان وميزتُهُ النطق بكلام مُفْهِم (بصيغة اسم الفاعل)، وأول البشر آدم عليه السلام علَّمه ربه أسماأ الأشياإِ، وقصَّ عنه من النطق كإنبائه الملائكة عليهم السلام، وإعلانه التوبة والندم من الأكل من الشجرة ما هو قاطع بأنه تكلم بكلام مفهم بلغة لا نعلمها، ولا سبيل إلا العلم بها بأي أثر حسي أو شرعي.. وما نُسب إلا الشرع من أن آدم عليه السلام تكلم باللغة العربية فلا يصح.. وما يقال عن كون السامية أصل اللغات مجرد ظنون، لأن هنالك أجيالاً من البشر لا يعلمهم إلاَّ الله تكلموا بلغاتهم قبل أن يخلق الله السام بن نوح عليه السلام، وغاية ما عندهم أن الألسن تبلبلت بعد الطوفان!.
قال أبو عبد الرحمان: ليكن هاذا محتملاً، فلتكن لغة السام أصل ما تبلبل أوأحدها بعد الطوفان، ولاكن لغة ما قبل الطوفان لا نعلم كنهها، إذن أصل اللغة توقيف بلا استثناإ، ثم تغيرت مخارج الحروف بفعل الله في البشر الذي أبدع خلقه علا مراده، وتغيَّر تركيب الكلام من الحروف وفقاً لاختلاف المخارج، وتغيَّرت الأوزان من مستثقل وغير مستثقل حسب اختلاف الألسن..
إلاًّ أن الرجحان الذي له حكم اليقين: أن جزيرة العرب بلاد الساميين علا رغم الاختلاف الوسيع في ذالك، لأن بلاد الأمم والأنبياإ عليهم السلام من ذرية سام إلا عهد إبراهيم الخليل عليه السلام كانت جزيرة العرب، فتلك آثارهم بسبيل مقيم.. وجميع تلك الأمم السامية عرب بمفهوم لغوي، لأن العروبة دلالة وصف، وليست اسماً لجد تنتمي إليه الأجناس السامية، وإنما تمحَّضَت العروبة عرقاً في ذرية إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام، فالعرب بعد ذاك جذمان من ذريته، عدناني وقحطاني، فلما ضاق الحجاز بالجذمين رحل القحطانيون إلا اليمن، وحلُّواعلا حضارات ولغات قائمة، فحدث للغتهم جرش حتَّا قال ابن العلاإ: ما لسان حمير بلساننا.. وبقي العدنانيون في مهدهم ذوي لغة واحدة ولهجات متعددة، وبسابق علم الله أن نبي آخر الزمان محمداً صلاَّ الله عليه وسلم سيكون من قريش، وأن ذروة الفصاحة جزأٌ من بيَّناته: هَيَّأ للحجازيِّين عوامل لسموق لغتهم يظهر منها منحة الله أوَّلاً، وموهبة عرب الفُصْحا ثانياً، لأنه سبحانه جعلها مصدراً لاكتمال لغة عبقرية، فالفضل لله أولاً وآخراً، وبفضله سبحانه كانت الموهبة العربية.. ولعلها تأتي مناسبة لبيان حال اللغة قبل اكتمال الفُصْحا.. والفُصْحا بدأت بقريش ومن في أصقابهم كبني سعد، وبرزت من الشعائر الأدنين من قبائل مضر، وظلت ربيعة تُذيب أكثر الفوارق مع اللغة المضرية، وظل القحطانيون يترسَّمون لغة قريش.. ورحم الله العرب، فأنزل القرآن بلهجاتهم، ثم قضا قدره الكوني والشرعي بتوحُّدهم علا الفصحا، وضَيَّق نطاق اللهجة بمفهوم المحلية، لأنها منسوبة إلا قبيلة واحدة، أو قبائل يجمعها الجوار.. وقد بيَّنْتُ في مباحثي اللغوية: أنه لا صحة البتة للأضداد في الوضع اللغوي، وإنما أحد الضدين وَضْعُ لهجةٍ، أو التقاأُ اسمين في صفة واحدة كالصريمين..
ولقد تحَّدث الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات رحمه الله عن المُأثِّرات الحضارية والثقافية في لغة قريش، فقال عنها: (فتهيأت لهم بذالك الوسائل لثقافة اللسان والفكر.. ثم سمعوا المناطق (1) المختلفة، وتدبروا المعاني الجديدة، ونقلوا الألفاظ المستحدثة، واختاروا لغتهم من أفصح اللغات، فكانت أعذبها لفظاً، وأبلغها أسلوباً، وأوسعها مادة.. ثم أخذ الشعراأُ يُأْثرونها وينشرونها حتَّا نزل بها القرآن الكريم، فأتم له الذيوع والغلبة(2)..
وعاب النثر العربي بعد جمل من الممادح بأنه سطحي الفكرة.. وربما تساوقت فيه الحكم، واطردت الأمثال من غير مناسبة قوية ولا صلة متينة)(3).
قال أبو عبدالرحمان: أما الثقافة فهي سعة في المعرفة التي يلتقطها العقل ويختزنها في ذاكرته.. وإذا اتسعت المعرفة اقتضت سعةً في التعبير، وذالك يقتضي نموَّ رموزٍ لغوية دالة.. وأما تدبر المعاني الجديدة فهو نموذج لما سبق من الوسائل الثقافية.. وأما نقل الألفاظ المستحدثة وذالك من اللهجات العربية خلال قرنين قبل الإسلام بعد الانفصال عن اللغات السامية : فذالك مادة أمرين: أولهما ثراأُ الرمز، وثانيهما إتاحة الفرصة لانتقاإِ الأفصح بالمقاييس المعروفة بلاغة مع بقاإ غير الأفصح، ليكون أبلغ في بعض المواطن من تركيب الكلام.. وأما العذوبة، والبلاغة، والسعة: فنتيجة لكل ما سبق..
إلا أن المقياس اللغوي للأسلوب فصاحته لا بلاغته: بأن يكون صحيحاً فصيحاً مفردة ورابطة ووزناً وتركيباً نحوياً.. أما بلاغة الأسلوب فخارجة عن النقل اللغوي، بل هي إبداع عربي، والعربي أبلغ الأمم باعتراف من يجيدون أكثر من لغة، وباعتراف جماعات كل واحد يجيد لغة لا يجيدها الآخر، ولهذا جعل علماأُ أصول اللغة وأصول الفقه تركيب الكلام بلاغةً عملاً عقلياً لا نقلياً.. أي يرتبط بموهبة الأديب، ثم التقط عبدالقاهر رحمه الله ما حصَّله بالاستقراإ من تقنين لأوجه البلاغة من إبداع المواهب العربية، فجعل ذالك نحواً ثانياً، لأن الكلام المركَّب المستهجن بلاغةً ينفر منه ذوقُ العربي كما نَبا سمعه السليقي عن الكلام المركب الفاسد لغة أو نحواً.. وكل عربي حنيفي أو وثني أو دَهري أو يهودي أو نصراني علا اختلاط دائم بأهل المدر في الحجاز ولا سيما قريش من أجل الحرم، والأصنام، والتجارة، والأسواق والسيادة المعنوية التي جعلها الله لقريش..
وذالك قضاأٌ قدري من الله سبحانه في شيوع هاذه اللغة الفُصْحا، ليحقق قضاأه الشرعي بأن تكون لغةُ الدين الخالد المهيمن بلسان عربي مبين يُجمِع علا فهمه واستحسانه جميع العرب وإن احتفظت كل قبيلة بلهجتها المحلية.
وَحُكْمُ الزياتِ بأن اللغة العربية أوسعُ اللغات مادةً: كلام لا يصح إن أريد بالمادة معارف أهل تلك اللغة، فوجب وجوباً لا مفرَّ منه أن يُفهمَ كلامه بأن المراد بالمادة اللغة الرامزة، وأن سعتها تعني قابليتها لتمييز كل ما سَيُعْرف، لأنها تدل بمفرداتها دلالةَ حقيقة، ودلالةَ مجازٍ عريض بتضمنٍ أو لزوم أو شبيهة أو علاقة معتبرة في الوصف أو التسمية كالمجاورة والسببية.. وفي رموزها دلالة للمفرد، والمثنّا، والجمع، وجمع الجمع، والحدث مجرداً من فعل، والحدث المرتبط بفعل بدلالاته الزمانية، والأسماإ الجوامد، والظرف، والدلالة علا التأثرات النفسية كالعجب، والدلالة على المذكر والمأَنَّث والعاقل وغير العاقل، والعام، والمتعيِّن، والمبهم، والمعلوم، والمجهول.. إلخ..
إلخ.. مع سعة في اشتقاق المعاني بأوجه كثيرة من المجاز، وحكاية الصوت، والنحت. وقل مثل ذالك عمّا له زيادة دلالة مضافة إلا دلالة المادة كدلالة الرابطة والوزن ( الصيغة الصرفية)، وأوجه التركيب النحوي، وأوجه التركيب البلاغي.. مع النمو بالتعريب والاقتراض.. وهاذه السعة طردت السأَم بالترادف بين ألفاظ علا معنا واحد.. إلا أن واحداً من تلك المترادفات واحداً فقط دال دلالة مطابقة، لأنه دلالة وضعية، وبقية المفردات دالة دلالات مجازية مع أن لكل لفظ معناه الوضعي الدال دلالة مطابقة.
وأما العيب الاستثنائي الذي عاب به الزيات النثر العربي فلا يكون ألبتة من جهة التركيب النحوي، لأن العربي سليقي في ذالك.. أما البلاغة فنتيجة موهبة بالفطرة أو الاكتساب، والأغلب في العرب البلاغة، وهاذا مَعْنا أن البلاغة موهبة عربية.. علا أن ما ذكره الزيات من تساوقٍ في الحكم، واطراد الأمثال ظاهرة صحيحة، وأما أن ذالك من غير مناسبة قوية، ولا صلة متينة (4):
فليس علا إطلاقه، وما هو بأغلبي، لأن جمهور العرب بلغاأُ.. بيد ان العلاقة أو المناسبة قد تكون مقصداً باعثاً للمرسِل، ووعياً قائماً في ذهن المتلقي كما نجد من نثر الحكم في خطب قسِّ بن ساعدة المشهورة، لأن غرضه الوعظ، فاقتضا ذالك كل ما ذكره الزيات من التساوق والاطراد، فلا تلتمس رابطة لفظية تعلل بها مناسبات الجمل في سياقها النحوي.. وأما سطحية الفكرة فلا تعني سطحية المعرفة، وإنما تعني غياب البديهة وحضور الفكر ليشحن النثر بمأثور المعرفة، وهاذا إنما يكون في القول العادي، لا في النثر الفني المعدِّ للخطابة والمحاضرة أو الكتابة بعد ارتفاع الأمية..وذالك كما أسلفتُ غير أغلبي.
وأما مذخور العرب من المعرفة فلا يوصف بالسطحية، لأن الذكاأ والجمال من مقومات تعبيرهم، وإنما يوصف بالنقص أو بلوغ الحالة الممكنة.. وذالك الوصفُ ذو مرحلتين:
الأُوْلا: حالة العرب وقت الأمية، فالنقص في معرفتهم حاصل، وغياب الحقيقة متأتٍّ، وهم مشدودون بمعارفهم الحسية المحدودة بممارستهم في شظف من العيش، وفي خلوٍّ من الكتاب المسطور الذي يقرأه الجمهور، فتعبيرهم جمالي بالأداإ اللغوي، قصير الجناح من جهة العمق الفلسفي.. وذالك لا ينفي نوعاً من التأمل الفكري المتصف بالبديهة، والذكاإ، وقوة العارضة في الجدل.. ولاكن ذالك كما أسلفت في حدود ما هم محصورون فيه من ممارسة حسية، أو معتقدات وهمية.. وليس ذالك هو النباأُ الفلسفي الشامخ، ولا الثراأُ المعرفي البَرِيْأُ من كثرة الأوهام في المعتقد.
والثانية: حالة العرب بعد الأمية، فقد جاأهم الكتاب هداية ربانية، وأشرفوا علا معارف الأمم بمثابرتهم علا الكسب، فكانوا الأمة الحضارية البارزة بين الأمم إِلاْ أن انتهوا حيث بدأ غيرهم.. وفي هاذه المرحلة احتاجوا إِلاْ لغة اصطلاحية ليست من مأثور لغتهم في المرحلة الأُوْلا: إما بالمجاز من لغتهم المأثورة، وإما بالتعريب، وإما بالاقتراض وهو نقل بلا تصرُّف منهم ، ولهاذا كثرت كتب المصطلحات العلمية في تراثنا.
ولما بين الزيات أن معاني الحضارة، والرأي العام، والأرستقراطية، والديموقراطية، والإقطاع: لا ألفاظ لها عند العرب والساميين جميعاً..
وأنه لم يكن للعرب ما كان للإغريق من تعدد الآلهة(5)، وضخامة الهياكل، وإقامة التماثيل، ووفرة الأساطير، وفلسفة العقائد(6): قال: (ولو ساغ لنا أن نحكم علا العرب بمقتضا لغتهم وأدبهم: لوجدنا لهم نفوساً كبيرة، وأذهاناً بصيرة، وحنكة خبيرة، ومعارف واسعة.. كوَّنوا أكثرها من نتائج قرائحهم، وثمار تجاربهم، فإن لغتهم وهي صورة اجتماعهم لم تدع مَعْناً من المعاني التي تتصل بالروح، والفكر، والجسم، والجماعة، والأرض، والسماإ وما بينهما إلا استوعبت أسماأَه، ورتبت أجزاأه..ووضع اللفظ للشيإ دليل علا وجوده وعلمه.. ولعمري ما يكون التمدن اللغوي إلا بعد تمدن اجتماعي راقٍ في حقيقته وإن لم يرق في شكله، عام في أثره وإن لم يعم في أهله)(7).
وإلا لقاإٍ إن شاأ الله، لإفاضة حول هاذا الموضوع، والله المستعان.
üüü
الحواشي:
(1) قال أبو عبدالرحمان: لعله يريد جمع منطق.
(2) تاريخ الأدب العربي، ص 17.
(3) تاريخ الأدب العربي، ص19.
(4) الصلة المتينة هي المناسبة القوية، ولاكن الزيات رحمه الله مأخوذ بالاسترسال في الإنشاإ، فيأخذ من الألفاظ فوق الحاجة.. والحكم في ذلك لمقاييس الإطناب والإسهاب بلاغة.
(5) بل عندهم تعدد آلهة، ولاكن ليس لديهم فلسفة أسطورية مدونة.
(6) تاريخ الأدب العربي، ص11.
(7) تاريخ الأدب العربي ، ص 12 13.
|
|
|
|
|