| شرفات
** ما العولمة ... ؟
سؤال العولمة الآن هو سؤال الساعة .. يفرض نفسه على منابر الاعلام، وفي مختلف أروقة الجامعات ومعاهد البحث.. تقام له الندوات والمؤتمرات ويتجادل بشأنه الباحثون والمفكرون. وتظل العولمة في نهاية المطاف لغزاً محيراً تكثر حوله الأقاويل في كل اتجاه، وكأنها أشبه بعنقاء نطاردها ليل نهار عسى ان نعرف لها رأسا من ذنب!
وأملا في الوصول الى ماهية ظاهرة العولمة وإطارها الفلسفي رأت دار الفكر بدمشق ان تستكتب أستاذين جليلين في حقل الفلسفة هما الدكتور حسن حنفي «من مصر» والدكتور صادق جلال العظم «من سوريا» ليقدم كل منهما رؤيته الفلسفية حول الموضوع بحسب تصوراته وأدواته المنهجية.
وجاء صدور كتاب «ما العولمة» من خلال سلسلة حوارات لقرن جديد التي تشرف عليها دار الفكر.
يقع الكتاب في ثلاثة أقسام: الأول يختص ببحث الدكتور حسن حنفي وعنوانه «العولمة بين الوهم والحقيقة» والثاني يختص ببحث الدكتور صادق جلال العظم وعنوانه «ما هي العولمة» وفي القسم الثالث والأخير هناك تعقيب لكل منهما على بحث الآخر لتكتمل دائرة الحوار.
العولمة بين الوهم والحقيقة
يبدأ الدكتور حسن حنفي بحثه بسؤال: هل هناك عولمة من وجهة نظر إسلامية، على اعتبار ان الحركة الإسلامية المعاصرة تحاول ان تقدم تفسيرا لكل شيء ولديها نظرة شمولية للعالم مثل باقي الأيدلوجيات، فلا بد ان لها رأيا في العولمة وفي باقي أساطير العصر مثل نهاية التاريخ، وصراع الحضارات .. ولا يطرح الدكتور الباحث اجابة على السؤال نظرا لتعدد المدارس الفكرية ووجهات النظر الإسلامية.
ثم ينتقل الى طبيعة الخلاف حول ظاهرة العولمة.. فهو ليس خلافا بين وجهة نظر إسلامية وأخرى ماركسية وإنما هو خلاف بين من يستسلم للأمر الواقع ويرى في العولمة قدراً حتمياً وبين من يقاومها لأنها مجرد غطاء نظري لأشكال الهيمنة القديمة . من هذا المنطلق قد يتفق إسلامي تقدمي مع يسار وطني اكثر مما يتفق إسلامي تقدمي مع إسلامي محافظ، لأن الخلاف بين الإسلام الوطني والإسلام التابع او بين اليسار الوطني واليسار التابع.
يتحاشى د.حسن حنفي المطولات والتأطيرات النظرية لأن الخطاب العربي درج على الشرح والتلخيص والتعامل مع الظاهرة كظاهرة «نصّية مكتبية» ولأن الأجدر بنا ان نتعامل معها كقضية وطنية «قضية مقاومة للهيمنة الغربية» ولهذا يختتم الشق الأول من بحثه بعنوان فرعي لا يخلو من رنة خطابية «كيفية مقاومة العولمة»!، مؤكدا على ان العولمة ليست قدراً محتوماً وإنما هي جزء من جدل التاريخ وبالإمكان ان نضع مقابلها: الارادة الوطنية للشعوب/ التجمعات الاقليمية القادرة على مواجهة الدول الصناعية الكبرى تكوين قطب ثان في مقابلة القطب الأوحد حتى ينشأ تطور متكافئ، ومن الأمثلة المرشحة لعب دور القطب الثاني «العالم العربي والاسلامي» .
وهناك افتراض أساسي تنبني عليه رؤية الدكتور الباحث للقضية، حيث ان العولمة من وجهة نظره، إما ان تكون لصالح المركز على حساب الأطراف وإما لصالح المركز والأطراف معاً. ويؤكد على ان العولمة القديمة قدم التاريخ كانت غالبا تسير في اتجاه واحد «لصالح المركز على حساب الأطراف» سواء في حضارات اليونان ام الرومان ام الغرب حاليا. ولا نجد نموذجا للعولمة المتصالحة الا في الحضارة الاسلامية التي عملت لصالح المركز والأطراف معاً، كما يرى الدكتور الباحث.
لكن الدكتور صادق جلال العظم في تعقيبه على بحث د.حسن حنفي يرفض هذا الافتراض السابق لأنه يوقع في الاستشراق المعكوس، حيث يتم تقسيم العالم الى شرق وغرب لكل منهما ماهية ثابتة لا تتغير الا عرضا، يرفع الاستشراق الكلاسيكي من شأن ماهيته الغربية على حساب الماهية الشرقية المفترضة، أما الاستشراق المعكوس فيفعل الشيء ذاته لكن بصورة مقلوبة اي لصالح الماهية الشرقية على حساب الماهية الغربية المفترضة.
رغم هذا يظل افتراض د.حسن حنفي متسقا مع تصوره العام للظاهرة باعتبارها أحد أشكال الهيمنة السياسية: هيمنة المركز على الأطراف سيطرة قطب أوحد يمحي الارادة المستقلة للشعوب إخضاع المنظمات العالمية لمطامع الدول الكبرى .. وهي في مظهرها الاقتصادي تكتل القوى العظمى للاستئثار بثروات العالم على حساب الدول الفقيرة هيمنة الشركات متعددة الجنسيات شيوع القيم الاستهلاكية وقوانين العرض والطلب «دعه يعمل دعه يمر»... أما في بعدها الاجتماعي والثقافي فانه يتمثل في تصور الحياة على انها متعة ورفاهية التحول من الثقافة المكتوبة اي ثقافة التلفاز والأقمار الصناعية وتصبح العولمة في محصلتها النهائية اسماً حركياً للأمركة!.
هذا التصور الذي يتلخص في تهميش الأطراف سياسيا واقتصاديا واجتماعيا لحساب المركز خصص له الدكتور حنفي الشق الثاني من بحثه تحت عنوان «الثقافة العربية في مواجهة العولمة» مؤكدا على مخاطر العولمة على الهوية الثقافية والاستقلال الوطني، وإرهاب الدولة الوطنية التي لا تدخل بيت ا لطاعة في النظام العالمي الجديد بشعارات من قبيل: حقوق الانسان حقوق المرأة حقوق الأقليات .. وهي كلمات حق يراد بها باطل.
ولن يتأتى الدفاع عن الهوية الثقافية ضد تلك المخاطر بالانغلاق على الذات ورفض الآخر لأن هذا تصحيح خطأ بخطأ وإنما يتأتى الدفاع أولا بإعادة بناء الموروث القديم المكون للثقافة الوطنية وتجديد لغته من لغة القطيعة الى لغة مفتوحة وطبيعية.. ويتأتى ثانياً عن طريق كسر حدة الانبهار بالغرب والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية من خلال تحويل الغرب من «مصدر للعلم» الى «موضوع» للعلم والدراسة.
وتكتسب هذه النقطة أهميتها نظرا لأن الانبهار بثقافة الغرب يحدث بطريقة لا شعورية تحت تأثير المركز يتم استعمال طرق تفكيره ومذاهبه كإطار مرجعي للحكم دون مراجعة او تمحيص.
ويختتم د. حسن حنفي وسائل الدفاع عن الهوية الثقافية بالتأكيد على الأنا المبدعة ودورها في عملية التفاعل بين الماضي والحاضر وإعادة الثقة الى الذات المنشطرة.
المدخل الثقافي
يختار الدكتور صادق جلال العظم المدخل الثقافي كبداية او نقطة ارتكاز لتحليل ماهية العولمة كمصطلح وظاهرة . ويشير الى كتب مثل: الاستشراق لإدوار سعيد ونهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لها نتجتون، باعتبارها ارهاصا يدل على العولمة في مظهرها الثقافي.
ثم يتعرض للخطاب العربي حول الظاهرة بالنقد والتحليل، من خلال دراسات المفكرين العرب أمثال: محمد عابد الجابري، اسماعيل صبري عبدالله، سمير أمين، خلدون النقيب وغيرهم . حيث يرى الدكتور الباحث ان الخطاب العربي يختزل الظاهرة على ميكانيكية تقنوية واقتصادية بدائية مبتذلة. أي ان الخطاب في تقييمه للظاهرة يبدو سطحيا او على أقل تقدير يقف منها موقفا سلبيا. وهو ما يرفضه الدكتور الباحث محاولاً ان يلفت انظار هؤلاء المنظرين الى «جديد العولمة»!.
ولكي ندرك هذا الجديد نحن القرّاء ايضا، يغوص بنا في غمار أدبيات الاقتصاد الماركسي، ليستنتج القارئ بعد عشرات الصفحات ان ما يميز الرأسمال العولمي هو التحول في عمقه الانتاجي بعد ان كانت الرأسمالية الكلاسيكية في مراحلها السابقة قاصرة على التبادل التجاري او البضاعي مع دول الأطراف.
ومن ثم يقدم د.صادق بعد الشروح والايضاحات والتحليلات تعريفا أوليا للعولمة: هي حقبة التحوّل الرأسمالي العميق للانسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ.
ورغم ان التعريف ينطوي على كلمتين مزعجتين «هيمنة»، «غير متكافئة» الا ان بقية البحث تميل الى التفاؤل بالظاهرة وترى فيها «نقلة نوعية» وربما تكشف الظاهرة عن «لحظة ثورية تراكمية تقدمية، على حد تعبير الدكتور الباحث.
صراع المركز والأطراف
التعريف السابق يطرح على الفور سؤالا مزدوجا عن علاقة المركز بالظاهرة وعلاقة الأطراف ايضاك فالعولمة بالنسبة إلى المركز تعني انتقال الرأسمال المركزي من الاستثمار الكلاسيكي في المرافئ والمناجم والمواد الخام والمواصلات الى الاستثمار في الصناعة وغيرها من المجالات الانتاجية المباشرة بما تحتاج إليه من تنظيمات ومؤسسات مصرفية ودعائية واتصالاتية، ودون ان يعني ذلك التخلي بأي شكل من الأشكال عن استثمارات النوع الأول غير المباشر.
هذا التحول في مراحل الرأسمال المركزي يكتسب أهميته حين نعلم ان الاستثمار الأجنبي في الانتاج المباشر ظل محصوراً في الدول الرأسمالية المركزية طيلة فترة الامبريالية الكلاسيكية ولم يتجاوزها الى الأطراف الا في حقبة العولمة.
فشركة مثل جنرال موتورز بكثافة انتاجها واستثماراتها كان إنتاجها المباشر يقع في بلاد مثل كندا والآن يتجه الى الأطراف في الهند وتونس مثلا. مع الأخذ في الحسبان ان الأرباح تبقى في دول المركز ام السوبر أرباح التي تجنى من الهند وتونس فانها تذهب الى مواقع أخرى من العالم.
كما يلاحظ ان الهوية الرأسمالية في حقبتها الكلاسيكية كانت معلنة ومعروفة لكنها الآن متعددة ومعولمة «وربما غامضة!» .
السلع ايضا أصبحت اكثر تماثلا وتشابها لأنها موجهة الى سوق عولمية، علاوة على ان هذا التطور احتاج بالضرورة الى ثورة اتصالات ومعلومات تواكبه لضبط العملية الانتاجية التي زادت تعقيدا بانتقال العمق الانتاجي الى مواقع مختارة في الأطراف.
بالنسبة إلى العولمة في الأطراف، يشدد د.صادق على ان انتقال رؤوس أموال المركز الى الأطراف ومغادرة مواقعها التقليدية لا يعني ان دول الأطراف تعيش تنمية حقيقية او انها على طريق المعالجة لمعضلات التخلف، فما زال المركز مسيطرا ولا يسمح بحدوث تنمية الا في حدود معينة ومناطق معينة. وما زال انتاج الصورة في الأطراف يتم وفق شروط رأسمالية محددة، فهناك تعاظم متسارع لحجم الكتل البشرية التي تعمل وتنتج وتستهلك في ظل تلك الشروط هناك ميل الى تعاظم حجم البطالة ميل الى التخلع الاقتصادي في البلدان الطرفية،
بمعنى ان قطاع الفوسفات على سبيل المثال في أحد تلك البلدان يرتبط بالمركز أكثر من ارتباطه بقطاع القطن في ذات البلد!.ثم يسوق الدكتور العظم مثالا على الصناعات المرشحة من قبل الحكومة الامريكية للهجرة الى البلدان الاخرى فهي إما صناعات تحتاج الى كثافة اليد العاملة الرخيصة وإما تصطدم بقوانين حماية البيئة في دول المركز.
وفي خاتمة بحثه يؤكد على ان دور الدولة لن يتراجع في حقبة العولمة كما يتصور بعض المفكرين العرب .. فما يحدث الآن في ظل تيار العولمة المطرد وديناميكيته قد يمثل ضغطا على الدول ويفرض عليها ان تحاول التكيف مع المشهد العولمي، لكن لن يؤثر في نهاية الأمر في بقاء اجهزتها التي لا غنى عنها لتحقيق العولمة ومساندة شركاتها المتعددة الجنسية.
شريف صالح
|
|
|
|
|