| شرفات
كان سعي البشر نحو التقدم سعياً شارداً غريب الاطوار مثل الطبيعة البشرية نفسها، وكان التقدم يأتي في نوبات متقطعة ومن جميع انحاء العالم، انه تاريخ مثير للكيمياء يبدأ من السيمياء الى العصر الذري، وتم إجمال هذا التاريخ في كتاب بعنوان: «ابداعات النار: تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء الى العصر الذري» تأليف كاتي كوب وهارولد جولد وايت، وصدر مؤخراً عن سلسلة عالم المعرفة بترجمة للدكتور فتح الله شيخ.
ينقسم الكتاب الى ثلاثة اقسام كبرى: القسم الاول: )الفصول من 1 7( ويغطي فترة ماقبل العصر المكتوب بآلاف السنين وحتى القرن الثامن عشر، القسم الثاني )الفصول من 8 14( يغطي الفترة الممتدة من اواخر القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الاولى ويتعرض للثورة الكيميائية وما تبعها، اما القسم الثالث والاخير فيغطي فترة لاتزيد عن اربعة عقود فحسب )منذ الحرب العالمية الاولى و حتى منتصف القرن العشرين(.
اي ان هذا الشمول والامتداد التاريخي يعكس ايجازاً وتكثيفاً في المادة العلمية التي تخاطب القارئ العربي بوجه عام، ولأن الكتاب يتوقف تاريخيا عند عام 1950م تبقى هناك حاجة ملحة لإضافة قسم رابع على الاقل يغطي النصف الثاني من القرن العشرين!
في البداية هناك تأكيد على ان لتيار الكيمياء رافدين اساسيين هما: التجربة والنظرية.. فبالرغم من ان الكيمياء الحديثة لم تبدأ كعلم إلا مع الثورة الكيميائية في القرن الثامن عشر الا ان الفلاسفة الاوائل فلاسفة النار قدموا تجارب مهمة وتصورات اولى استمرت من بعدهم لقرون مديدة. فمثلاً نظرية ارسطو عن العناصر الاربعة )النار، الماء، التربة، الهواء( استمرت لقرون ممتدة بما لها من اغراء حدسي، فقد كان من المفترض ان تلك العناصر موجودة بنسب خلط معينة في جميع المواد، وبالفعل، عندما كان الخشب يحترق كان من الممكن مشاهدة الهواء «الدخان» يرتفع إلى اعلى، )والماء النسغ( يتقاطر )التربة الرماد( تتكون والنار )اللهب( تتصاعد.
كما انها كانت نظرية واعدة لانه لو كانت جميع المواد مكونة من خليط من العناصر الاربعة فهذا يعني امكانية تغيير نسب هذه العناصر في احدى المواد لتنتج مادة اخرى او بعبارة اخرى، اجراء تحويل وكان اكثر عمليات التحويل شهرة وجذباً للاهتمام، هي تحويل الفلزات الاساسية الى ذهب..
هذا السعي المبكر الى التطبيقات العلمية للكيمياء كان يتم في اجواء من الغموض والسحر والتصوف والخداع وحتى عندما تحول السيميائيون الأول عن انتاج الذهب الى امور اكثر عطاء كإنتاج الادوية والعقاقير ظلت اجواء الغموض والسحر تحيط بهم.
وخلال رحلة البدايات الاولى يتتبع المؤلفان الافكار الاولى المؤسسة لعلم الكيمياء في الحضارات القديمة: في مصر واليونان والهند وروما، ونجد اسماء أرسطو سقراط )اليونان( هيرمس وماري )مصر( وكوهونج )الصين( ونجار جونا )الهند( ثم تتحرك بنا الرحلة باتجاه الحضارة الاسلامية واوربا في العصور الوسطى وهنا تبرز اسماء ثلاثة من علماء المسلمين الكبار وهم جابر بن حيان وابن سينا و الرازي، ومن بعد هؤلاء الثلاثة لانعثر على اسم عالم عربي او مسلم في هذا التاريخ الحافل!
وفي إيجاز العرض التاريخي لايغفل المؤلفان ان يشيرا الى الملابسات التاريخية او ما يحدث من كوارث وحروب كالحروب الصليبية على سبيل المثال باعتبار ان هذه الملابسات كانت سببا في اضمحلال علم الكيمياء هنا او ازدهاره هناك، وكأن هذه الملابسات بخيرها وشرها هي الحافز الاساسي نحو مزيد من التقدم العلمي الى ان نصل الى القرن الثامن عشر وثورة الكيمياء التي قادها الكيميائي الفرنسي لافوازييه وهي ثورة ضد الغموض وعدم الدقة في الفكر والتجريب. فعندما كان الدخان يدعم بشكل غامض فكرة ان الهواء عنصر، كان المفكرون المدققون يتساءلون عما اذا كان الدخان هو العنصر النقي للهواء!!واذا كان كذلك فلماذا يكتسب الهواء احياناً خواص مختلفة؟! عندما كانت خفة وزن الرماد تدعم بغموض فكرة ان شيئا ما يغادر الخشب اثناء التسخين، كان المفكرون يتساءلون لماذا تكتسب الفلزات زيادة في الوزن اذا سخنت؟ مثل هذه التساؤلات كانت البداية الحقة لطرد الخرافة والسحر من حظيرة علم الكيمياء، كما انها ارست على نحو قاطع قواعد القياسات الكمية الدقيقة التي استفادت بدورها من تطور الاجهزة العلمية بدءاً من القرن الثامن عشر.وخلال القرنين التاليين «الثامن عشر والتاسع عشر» تطورت النظرية الكيميائية على نحو مذهل وفي خطو متسارع.. فالتساؤل عما يمسك العناصر بعضها ببعض كان سببا في السعي العلمي الحثيث باتجاه نظريات الكهروكيميائية ومن بعدها نظريات الكم التي جاءت كواحدة من اهم واخطر النظريات العلمية على الإطلاق، وهي نتاج تزاوج جهود الفيزيائيين والكيميائيين لفهم طبيعة النشاط الاشعاعي وبنية الذرة والمقدرة على التفاعل، فكان رذرفورد مؤسس نموذج الذرة على شكل كوكب سيار فيزيائيا لكنه نال جائزة نوبل في الكيمياء، وكان لويس الكيميائي يملك البصيرة الفيزيائية النافذة التي جعلته يقترح الرباط ثنائي الالكترون الذي اسس عليه الكيميائيون نظرية الكم للرباط الكيميائي.
وهكذا، قد يحدث في قابل الايام ان يكتشف بعض الكيميائيين مكونا خاصاً متميزاً في احدى الخامات الجديدة، او في شظية من نيزك قادم من نجم يموت.. عندئذ ستوقد النيران وترتفع عليها القدور التي تغلي وسينحني الكيميائيون كعادتهم فوق كؤوسهم بالاحماض والزيوت ليذيبوا ويغلوا ويقطروا ويبخروا.
ومن يدري أي روح ستسمو أو أي بهيمة ستزحف خارجة من هذه المراجل المخمرة.. ولا احد يدري برغم افكار ارسطو وثورة لافوازييه ونتائج لويس، ما الذي يخبئه الأفق في الكيمياء وإلى اين تذهب بالبشر ابداعات النار التي لا تنتهي ... ؟!!
|
|
|
|
|