| الثقافية
إن دراسة الأدب الجاهلي عمل ممتع وجدير بالاهتمام لأنه أكثر الآداب تأثيرا في مجرى الأدب العربي.. وجذوته ما تزال مشتعلة، وهو ليس مجرد لحظات عابرة في حياة الأدب العربي أو عصرا من عصوره، إنما هو أدب وشعر ينافس شعره أي شعر آخر إذا أحسنا قراءته ولبدا أمامنا أكثر حظا وأوفر ثراء ابداعياً في قصائد تعد النموذج الأعلى للشعر العربي الذي ظل يتطلع اليه عبر قرون طويلة.
العصر الجاهلي ليس هو العصر الذي يسوده الجهل الذي هو ضد العلم، كما يزعم بعض الباحثين، فواقع حال العرب قبل الاسلام يفند ذلك، فالعرب أمة من الأمم لها حضارتها في أعماق الزمان والمكان ولها لغتها المتميزة، أما كلمة «جاهلية» فيما تعنيه حالة خلقية وهي الاسراف والغلو في تقدير الأمور وسرعة الغضب والتهور، فالكلمة تدل على الجهل الذي هو ضد الحلم وحينما أطلقت على ذلك العصر كانت لتدل على تلك الطبيعة الخلقية وليست العقلية، والى هذا المعنى ذهب عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لم تقم حضارة على قاعدة أدبية إلا الحضارة العربية، لذا كان القرآن الكريم هو معجزة الاسلام الخالدة، حتى الحضارة الإغريقية لم يكن للأدب ذلك الانتشار في كل أجزاء مدنها كما كان الأدب منتشرا ومزدهرا في كل أرجائها، فمن البادية نشأ الأدب الجاهلي وحمل عطر الصحراء ونبض بكل معاني الحياة الصادقة.. قافلة الزمن تقطع فيافي وعصور.. باعدت بيننا وبين العصر الجاهلي إلا أنه لا يزال خالدا في أعماقنا، ونحن نتنفس ونملأ صدورنا من هواء المدنية والحضارة إلا أن عبق الصحراء يخالط أنفاسنا، وبالرغم من تكاثف غبار القرون على القصائد الجاهلية إلا أنها لا تزال كنوزاً ثرية ومعادن أثرية لا يغيرها الزمن أو يبدلها، ونحن اذا نتذوق جمال التراث الثمين بمقاييس الجمال العصرية فإنها متعة وأيما متعة!.
الفن العظيم له ميزتان ينقل معنى ظاهراً يقف عنده الكثير، ومعنى يحتاج الى الغوص في الأعماق ويقتصر على من يملك الغوص في بحور الفن، شروح القدماء للشعر الجاهلي كثيرة تختصر المعنى في مقصد نثري، ترى في الشعر ما وراءه كأنه زجاج شفاف أو وعاء لمعنى نثري وبالتركيز على المدلول وحده دون الدال فلا نرى الزجاج أو الوعاء أو الدال وأغفلنا النظر الى حضوره الذاتي في مقابل الالحاح على ما يعكسه أو يحتويه، وعمقت فينا المدارس التقليدية بأهمية المدلول على حساب الدال في الشعر بخاصة والأدب بعامة، ترى العمل مجرد سطح مرآة تعكس صورة وتشغلنا باستجلائها عن العاكس ذاته، ترد تموّج الدلالة الى علاقة مجازية ضيقة البعد، وتلصق بطاقة «الاستعارة المكنية» على الأبيات، أو ان تقدر فعلا محذوفا في علاقات التراصف بين الكلمات، دون ادراك الفاعلية الرمزية للاستعارة. وتمردت النظريات الأدبية على المفهوم التقليدي باعتبار الأدب محاكاة وغاية الابداع إلباس المعنى حلية اللفظ لتؤكد الابداع من حيث هو نشاط خلاق يتجاوز معنى المحاكاة الحرفية وغير الحرفية وبإعادة الرؤية للشعر من منظور جديد يتجلى لنا حضوره الذاتي كزجاج ساطع، وتترعنا من الخدر الدلالي الذي ألفناه الى الطراوة الدلالية التي تنطوي عليها.
ان ما يلفت الانتباه كثيرا في الشعر الجاهلي هو فن الأطلال والدمن والرسوم وبقايا الماضي التي تأخذ صفة الإلحاح على عقل الشاعر، وتأخذ روعة التذكر مساحة واسعة في المتعة الشعرية، فيبدأ بها القصائد كفن ينبع من الزام المجتمع وتأكيد الانتماء الشعوري اليه، وأصبح التذكر فريضة لا مندوحة عنها، والشعر لابد أن ينبض بروعة التذكر وقدسية الذاكرة. وما يشد الانتباه اليه منذ بداية القصيدة بلاغة الاستهلال، ويبدأ بالمفاجأة الاستهلالية والتصريع نوع من التنبيه ومن أنواعه أيضا: النداء.. وفعل الأمر ليحضهم الى استدعاء الانتباه، ونرى ذلك في مطلع معلقة امرىء القيس:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ومطلع معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ومطلع قصيدة الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
كلها أمثلة لحسن الاستهلال، ولعل بعض مؤشرات التناص الاستهلالية نوع من التنبيه اللغوي الى مغايرة التركيب والبنية كمطلع معلقة عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم؟
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
الشاعر يؤكد الحضور الذاتي الفعال للنصوص التي تتبادل الفاعلية والتأثير، وعلاقته مع السابقين تأسيسا على معنى الابداع، وفي شرح القدماء للبيت قال الزوزني: بأن تحرير المعنى:«لم يترك الأول للآخر شيئا أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مترقعا أرقعه ومستصلحا أصلحه، ثم أضرب عن هذا الكلام وأخذ في فن آخر، فقال مخاطبا نفسه: هل عرفت دار عشيقتك بعد شكك فيها؟».
ويؤكد هذا المعنى شرح التبريزي: ان المعنى هو:«هل أبقى الشعراء لأحد معنى إلا وقد سبقوا إليه؟ وهل يتهيأ لأحد أن يأتي بمعنى لم يسبق إليه؟». كأن الشاعر يسأل سؤالاً ثم ينتقل الى سؤال آخر، ولا أظن ان البيت أو القصيدة الجاهلية قطعا متمايزة من المعاني، ومن الغلو القول: ان الشاعر الجاهلي كان يرى في التفكير الاستطرادي أسلوب حياته، ومن الغريب الدعوة الى تذوق الاستطراد والانتقال من معنى الى معنى، ولنبتعد عن تشتيت العالم الادراكي الذي يستغرق فيه القدماء الى وحدة العالم الجمالي الذي تبنيه القصيدة.
إن عالم الشاعر الجاهلي وعي وحضور لوجوده، ويبدأ الشعر انطلاقه من توتر الأنا التي تنقسم على نفسها لتجتلي وجودها. ومن منطقة التعاطف يقيم علاقاته مع عوالم الطبيعة ليقتنص اللحظة التي يبدو بها التعاطف تقمصا، ومن منطقة التعاطف يبدأ الحوار، والتجريد نوع من الحوار تجرد الذات من نفسها موضوعا فتغدو هي المخاطب. وقد عرف القزويني التجريد بقوله:«هو ان ينتزع من أمر ذي صفة أمراً آخر مثله في تلك الصفة مبالغة في كمالها فيه» وعرف أيضا:«هو أن تأتي بكلام يكون ظاهره خطابا لنفسك فتكون قد جردت الخطاب عن نفسك وأخلصته لغيرك»، وكمثال للتجريد نتذكر قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟ |
ويسعى الى تأكيد وعي شعوره الذاتي، يجتلي وجوده من حيث هو وعي بالغير ووعي بالأنا على السواء.
الشاعر الجاهلي يدرك الصلة الرمزية بين الأنا وعالم الكون، وجعل من الموجودات مرايا له يعكس عليها شكل شعور الأنا، فيجعل من السيوف مرايا له ولمن يحب، ويتذكر عنترة والسيوف مشرعة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم |
إنه يشتهي الحياة في الموت، يرى في حد المنية لذة التقبيل، ويحلم بلحظة الوصال.. فالصلة الرمزية لوجوده هي المرأة رمز الحياة التي يستعيذ بها في لحظات الموت.. وتتقاطر دماء الفارس في المعركة كورود الحب.
|
|
|
|
|