| مقـالات
من الحوادث الخطيرة التي مرت على الجزيرة العربية في تاريخها الطويل، فهزت كيانها، وزلزلت أركانها، وقلبت أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى حين، ثم بقيت أصداؤها في الذاكرة الشعبية حتى الآن وإلى أن يشاء الله - حملة ابراهيم باشا.
وكان الدكتور عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم نشر منذ حوالي عشرين سنة وثائق عن الجزيرة العربية تتعلَّق بتاريخها في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري والذي يوافق أواخر عهد الدولة السعودية الأولى وأوائل عهد الدولة السعودية الثانية وما بين ذلك من أحداث، وهذه الوثائق أكثرها عبارة عن مكاتبات تمت بين محمد علي ومن كان حينها في الجزيرة العربية من قادته وعماله وشيوخ القبائل وغيرهم من ناحية وما تم بينه وبين رجال الدولة العثمانية بشأن الجزيرة العربية من ناحية أخرى. وقد استخرجها د.عبدالرحيم من بين كم هائل من الوثائق المتعلقة بعصر محمد علي باشا تزخر بها دار الوثائق القومية في القاهرة وقد كان معياره في اختيارها - كما أفاد في المقدمة - ان تحوي حقائق تاريخية تصور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة ذاك الزمن.
وتأتي قيمة هذه الوثائق أنها رسائل تبادلها أشخاص شاركوا في صنع الأحداث أثناء وقوعها، أو كتبها أو أملاها أشخاص لهم مكانتهم وقتها وعاشوا في وسط المنطقة التي جرت فيها الأحداث، ولذا فإن المعلومات الواردة فيها تتميز بالدقة إلى حد بعيد، وتزداد تلك المعلومات دقة وفوق ذلك موضوعية أنها جاءت في رسائل كانت ترسل أيام الأحداث بشكل سري، ولكن ليس فيها في الوقت ذاته ما هو سري وعلني، لأنها تبودلت بين رجال يهمهم معرفة كل ما يحدث بخيره وشره، صغيره وكبيره.
ومن المعلوم أن بريدة كانت على رأس البلدان التي قصدها ابراهيم باشا عند اجتياحه الجزيرة العربية سنة 1233ه/1818م ولهذا جاء ذكرها في عدد من الرسائل التي كتبت خلال الحملة، سواء كتبها ابراهيم باشا نفسه أو كتبها آخرون. والناظر في هذه الرسائل يجد معلومات مهمة تتصل بأوضاع بريدة السياسية والاقتصادية والعمرانية ونحوها، فضلاً عن التفاصيل الخاصة باستيلاء ابراهيم عليها، وهذا كله يعز على الباحث أن يحصل على شيء منه في المصادر التاريخية الموجودة بين أيدينا، إذ إنها مرت على ما وقع لبريدة أثناء الحملة مروراً سريعاً.
ويتوافر لدينا من الوثائق التي ورد فيها ذكر بريدة في وثائق حملة ابراهيم باشا المنشورة بعناية د.عبدالرحيم ست وثائق، أربع منها كتبها من موقع الأحداث ابراهيم لوالده محمد علي، وثنتان كتبهما إلى محمد علي اثنان من رجاله، الأولى بقلم محمد نجيب وكيله في الباب العالي، والأخرى بقلم حافظ عيسى.
أما رسائل ابراهيم باشا فثلاث منها كتبها من بريدة في يوم واحد وهو 9 محرم سنة 1233ه/19نوفمبر 1817م، والرابعة كتبها من المدينة النبوية في 21 ذي القعدة سنة 1234ه/13 سبتمبر 1819م.
في الرسالة )الوثيقة( الأولى يذكر ابراهيم تحركه من عنيزة في غرة محرم إلى بريدة، ثم يشرح طريقته في الاستيلاء عليها، وذلك بهدم أبراجها الواقعة خارجها، ثم وصوله إلى سورها، ومن ثم حصارها وضربها بالقنابل مدة يوم وليلة، ثم موافقته على إعطاء الأمان لأهلها)1(.
وفي الرسالة الثانية يبرر فيها لوالده عدم دخول بريدة عنوة رغم ان ذلك كان بإمكانه ان يفعله، وأن يقبض على حاكمها حجيلان)2( حياً فالقيام بذلك لن يأخذ منه - حسب رأيه - سوى خمسة عشر يوماً فقط، ولكنه آثر ألا يفعل ذلك من أجل أن يبقي قوته لفتح الدرعية. ثم شرح ما حصل من صلح مع حجيلان، وأنه أخذ ابنه رهينة وسجل - طبقاً لما رآه - مشاعر أهل القصيم لاسيما أهل الوادي تجاه حجيلان، ثم ذكر أنه أرسل إلى المدينة النبوية يطلب الذخائر اللازمة لكي يتحرك نحو الدرعية)3(.
وفي الرسالة الثالثة يعلل لوالده سبب مكوثه في بريدة مع أن الواجب عليه التحرك بسرعة فيذكر ان سببه نقص المؤن، ثم وضح أنه استطاع ان يشتري من القصيم ما يكفيه لمدة خمسة وعشرين يوماً، وبعدها شرح أن عليه الانتظار ثلاثين يوما لتذهب القافلة إلى المدينة وتعود بالمؤن منها، ثم وعد أنه سيتحرك بعد خمسة أيام من تحرير هذه الرسالة)4(.
أما الرسالة الرابعة فقد كتبها كما سبق بعد وصوله المدنية، وقد شرح فيها لوالده الأوضاع في نجد والأحساء بعد انتهاء حملته، فكشف فيها أنه قد أخذ حاكم بريدة حجيلان معه إلى المدينة، وبيَّن أنه قد رخص له بالبقاء فيها وفقاً لمعاهدة بينهما فهو كما يبدو يعلل لوالده سبب عدم بعث حجيلان إلى مصر)5(.
وبخصوص الرسالة التي بعثها إلى محمد علي وكيله لدى الأستانة محمد نجيب فهي مؤرخة بتاريخ 15 صفر سنة 1233ه/25 ديسمبر 1817م يخبره فيها أنه بينما كان يعد جواباً لرسالته التي كان بعثها إليه بشأن أخبار تحركات ابنه ابراهيم في الجزيرة، وأنه قد أوصلها إلى السلطان، إذ وردت إليه مكاتباته التالية في 12 صفر 1233ه، وفيها ذكر لبريدة، وأن عبدالله بن سعود ذهب إليها لحصانة قلعتها، ثم تحوله عنها لعدم تمكنه من الاستقرار فيها)6(.
أما الرسالة الأخيرة التي حررها إلى محمد علي أحد رجاله وهو حافظ عيسى فتاريخها غرة جمادى الثانية سنة 1233ه/8 ابريل 1818م فيذكر فيها استلامه كتاب محمد علي إليه الذي بشره فيه بتحرك ابنه ابراهيم من بريدة وتوجهه نحو شقراء بعد استكماله التجهيزات والاستعدادات الكفيلة بنجاح مهمته)7(.
وبعد هذا الاستعراض العام لمحتوى هذه الوثائق نبرز بعض ما ورد فيها من عبارات ومعلومات توضح جوانب مهمة من تاريخ بريدة:
1 تعتبر إحدى الرسائل أمير بريدة حجيلان زميلاً للإمام عبدالله بن سعود وكتخداه، ومعنى الكتخدا أي النائب، وكانت هذه الكلمة تطلق على كبار رجال الدولة عند العثمانيين)8( وتصف رسالة أخرى حجيلان بأنه «مستشار عبدالله بن سعود» ومثل هذه العبارات تبين مكانة حجيلان وبريدة في ذلك الوقت لدى الدولة السعودية وحكامها.
2 أن بريدة حينذاك تتميز بالقوة والمنعة، فالإمام عبدالله بن سعود لجأ إليها «لمناعة قلعتها» على حد قول إحدى الرسائل.
3 من الواضح ان ابراهيم باشا زحف على بريدة من الناحية الجنوبية فهو كتب إحدى رسائله إلى والده من عنيزة يخبره بتحركه نحو بريدة، ومن خلال هذه الرسالة يتبين وجود عدد من أبراج المراقبة خارج بريدة من جوانبها الأربع، وقد حاول الرجال الذين كانوا فيها وقف الجيش المهاجم فلم يفلحوا، فهدم ابراهيم باشا أربعة منها، وقتل أثناء ذلك خمسين رجلاً)9(.
4 من خلال وصف ابراهيم باشا لهجومه على بريدة يشير إلى ان المزارع كانت آنذاك تحيط ببريدة من جهاتها الأربع، حيث يذكر ان الأبراج «في جهات البساتين الكائنة في الجوانب الأربع من القرية المذكورة».
5 يفهم من الرسالة التي تشرح الهجوم على بريدة وإعطاء الأمان لأهلها ان سورها كان حصينا لأن ابراهيم باشا قدر انه لو لم يصالح أميرها لتطلب منه اقتحامها بالقوة خمسة عشر يوماً وهو يمتلك مدافع وأسلحة تعد متطورة في ذلك الزمن، وهذا في تقديره الذي قد يصدق، وقد لا يصدق فتحتاج إلى مدة أكثر.
6 تكشف إحدى الرسائل ان أمير بريدة حجيلان كان أحد الشخصيات المهمة التي لها خطرها في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، ولذا أخذه ابراهيم باشا معه من نجد بجانب الإمام عبدالله بن سعود وآخرين بعد قضائه على الدولة السعودية الأولى، فهو يعده - حسب تعبيره - «أحد الذين يميلون إلى الفساد في نجد... أو يلاحظ أن يكونوا مبعث فتن».
7 وأخيراً يتبين من إحدى الرسائل أن حجيلان في وقت الحملة كان كبيراً في السن، فإبراهيم باشا رخص له بالإقامة في المدينة النبوية، ولم يرسله إلى مصر كغيره «نظراً إلى عدم مقدرته على الركوب والنزول» حسب ما ورد في تلك الرسالة التي كتبت - كما سبق - في 21/11/1234ه وهذا يعني أنه كان حياً في هذا التاريخ
أستاذ التاريخ جامعة الإمام فرع القصيم.
)1( عبدالرحيم: من وثائق تاريخ شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث: م2، ص 615 - 616.
)2( حجيلان بن حمد من آل أبي عليان من تميم، تولى إمارة بريدة بعد سنة 1190ه )البسام: تحفة المشتاق، ورقة 115، مقبل الذكير: تاريخ نجد، ورقة 10( وانظر بعض أخباره في: النقيدان: من شعراء بريدة، ج2، ص250 - 260.
)3( عبدالرحيم: المرجع السابق، ص612 - 614.
)4( المرجع نفسه، ص 620 - 621.
)5( المرجع نفسه، ص 720 - 722.
)6( المرجع نفسه، ص 624 - 626.
)7( المرجع نفسه، ص 649 - 650.
)8( حسين مجيب المصري: معجم الدولة العثمانية، ص 164.
)9( روى لي الوالد رحمه الله أن ابراهيم باشا عسكر في ضاحية الصباخ جنوب بريدة في إحدى المزارع بعد أن قطع نخيلها وأشجارها، ثم استدعى أصحاب المزارع الأخرى وطلب منهم أن يشتروا أملاكهم منه وإلا فعل بها مثلما فعل بتلك المزرعة، فرضخوا للأمر الواقع سوى أحدهم الذي هزأ بطلب الباشا ورفض أن يأتي إليه، لأنه كان معتصماً بقلعة حصينة، ولذلك أرسل ابراهيم نحو تلك القلعة مدفعاً يجره بغل، وأطلقه عليها وهدمها على من فيها.
|
|
|
|
|