| بحوث ودراسات
* إعداد د.عبدالله بن مصلح النفيعي
كان الجنس البشري طيلة وجوده مهدداً بنقص في الغذاء والمواد والموارد الطبيعية.. والآن بعد أن دخلنا عصر الصناعة الكلية نكاد نمر بتحول في إنتاج السلع والغذاء يحرر البشر من تهدي الندرة ويوسع مفهوم الوفرة.
فالتقدم التكنولوجي يعزز طاقتنا لايجاد الموارد التي نحتاجها لبقائنا وازدهارنا.. وسننظر إلى العمليات التي سوف ننتج ونصمم من خلالها عالماً جديداً من المواد المنزليه والصناعية.. وأيضاً نتصفح الاكتشافات في العلوم الزراعية التي ستطعم العالم.. وعكس التوقعات «المالثوسيزن» اصحاب نظرية ضرورة توازن الموارد الطبيعية مع الزيادة السكانية بأن الانسانية سوف تستنفذ الموارد الغذائية المتوفرة فإننا الآن على مشارف زيادة التغذية والوحدات الحرارية «السعرات» التي يتناولها الفرد وتحسين النوعية العامة للغذاء البشري.
ومثل تلك الزيادة المضاعفة في الغذاء والبضائع من الممكن أن تشكل القاعدة المادية لعدد أكبر من عدد السكان الحالي.. وسنرى هناك ظروفاً مواتية للتوسع الحقيقي المستمر لقاعدة سكان العالم. وفيما يلي الحلقة الثانية من هذه الدراسة:
الحياة في عالم تتوفر فيه المواد:
لن تكون هناك سمة لأنشطة البشر في عصر الصناعة الكلية أكثر وضوحاً من الانتصار على ندرة السلع.. وبالاضافة الى الزيادة المتسارعة في انتاج الطعام فسوف نشهد ثورة حقيقية في صناعة المواد.. وسوف يوفر التطور في السراميك والمواد المبنية على معادن جديدة والمواد الاصطناعية الإطار للتطور في الطاقة والصحة والاسنان واكتشاف الفضاء ومجالات اخرى.
وقد اعتمدت الإنسانية تاريخيا على مواد أفضل نذكر قليلا منها البرونز والحديد والحجارة ومواد اخرى لتحسين اوضاعها.. واليوم نحرر انفسنا من الاعتماد على المواد والمعادن الطبيعية لتلبية طلباتنا.. الآن لدينا القدرة لتصميم وانتاج المواد التي نحتاجها من النفايات.
وهذه الثورة المتقدمة في المواد تجعلنا اقل اعتماداً ايضا على الضرورة الحالية لتعدين المواد وبعد ذلك نقلها عبر نصف العالم.. فالمادة المتقدمة للصناعة الكلية تبدأ حياتها في عقل عالم المختبر وليس على الارض.. وطبقا ل«رستم روي» من مختبر ابحاث المواد من جامعة ولاية بنسلفانيا «نستطيع ان نصنع مواد لمواصفات تم تصميمها مسبقاً حيث يتم تشكيل الجزئيات لانجاز العمل الذي نريد».
ومعظمنا لديه خبرات مع تلك المواد الاصطناعية مثل السراميك ولكن منتجات السراميك الجديد المصنوعة من الالمومنيوم والتيتان والرمل اقوى واصلب واخف واكثر تحملاً من كثير من المعادن.. ونحن نرى الآن تلك المواد المتقدمة من مقصات السراميك مثل تلك التي تستخدمها شركتا ايزوزو وتويوتا لصناعة السيارات التي تتحمل حرارة حتى 1500 درجة فهرنهايت دون مادة مبردة او تشحيم وتتفوق على فاعلية الوقود بثلاثين في المائة وبهذا ينخفض اعتماد الغرب على الزيت.
كما سوف يخفض البلاستيك حاجتنا الى مايسمى الموارد الطبيعية.. ومنذ عام 1979م حل البلاستيك مكان الفولاذ كمادة رقم واحد مستخدمة في الانتاج.. والآن تستطيع العمليات الصناعية الجديدة انتاج بلاستيك عالي الجودة والأداء ومكونات اخرى متطورة.. ونستطيع الآن تصميم مواد جديدة على الحاسب الآلي وانتاجها بالفعل.. وهذه المكونات يتم انتاجها من القاعدة اي من الجزيئات، جزء فجزء مهما صغر حجم هذه الجزيئات كذرة بذرة ومن الممكن تصميمها لتختفي بالفعل بعد ستين يوماً في ضوء الشمس «وهذه هي اقصى درجة من التحليل الاحيائى» او يتم ازالتها بالماء اذا اخترنا ذلك.
وتقول جنرال موتورز التي تدفعها حقيقة ان تلك المكونات ستكون اخف وزنا واكثر تحملا من المواد القديمة ان 20% من سياراتها و50% من الشاحنات الصغيرة اصبح جسمها من البلاستيك في منتصف التسعينيات.
وتهيىء المواد الجديدة مثل الجاليوم والارسنيكا جيلاً جديداً من الرقائق السوبر للحاسب الآلي واكثر سرعة واقوى من النوعية الحالية..
وقد ساعدت تلك المادة الجديدة في تطوير مجال وحدات الضوء «الفوتون» حيث يتم توليد فيضات الضوء بواسطة الليزر ونقلها بكوابل الالياف البصرية.
والمجال الذي سيستفيد فورياً اكبر استفادة من نمو المواد المصنعة هو الطب.. حيث تم تضمين البولي اورثنيات (POLYURETHAVES) والسليكونات والمطاط والكاربونات في تكوينات الشرايين الصناعية والدم الصناعي والاذان الاصطناعية.. وبالطبع فقد اصبحت زراعة العظام وزراعة الاسنان وتغيير مفاصل الفخذ التي لم تكن معروفة قبل عقود مضت اجراءات عادية بفضل المواد الجديدة بالاضافة لذلك اصبح اصلاح نظام العضلات اسهل نسبة لتوفر الاوتار والاربطة المصنوعة من الياف البوليمر والكاربون.. وتنقذ العدسات الصناعية التي تتم زراعتها نظر ملايين ضحايا الماء الابيض(CATARACT).
كما تمثل الاكتشافات لتطوير معادن جديدة جزءا من ثورة المواد المتقدمة.. وتوعدنا الهندسة الذرية بتصميم مواد لديها خصائص جديدة تتحقق بخلط العناصر التي لايمكن خلطها باستخدام الطرق التقليدية..
ويدعي العلماء ان تلك المواد الجديدة تمثل حالة جديدة بالكامل للمادة.. وبتريب مثل تلك المواد مثل النحاس والزير كويوم (ZIRCONIUM) انتج الباحثون مواد رقيقة كالورق ولكنها اكثر مرونة وتستعيد شكلها بعد ثني شديد. كما انها قد تكون اكثر مقاومة للتآكل.
والمنتجات المدهشة لا نهاية لها الافرام الماسية للزجاج الذي لا ينخدش والسراميك الذي لا يتمدد للتلسكوبات الكهربائية وتم تحقيق كافة المواد التي كانت حلماً للمصممين الرواد وتركيبها.
وبالطبع فان تلك الاكتشافات تم تسهيلها بواسطة الادوات الجديدة التي تحلل التركيبة الداخلية للمواد.. فاذا كنا نود تصميم بلاستيك او سراميك او مواد جديدة ذرة فذرة لابد ان نفهم العلاقة المكانية للذرات في المواد الاساسية ويستطيع مايكروسكوب المسح المقطعي تقديم معلومات دقيقة بصورة لاتصدق عن مواقع الذرات على السطح.. وطبقاً ل«فرانك فرادين» المدير المساعد للعلوم الفيزيائية في مختبر ارجوني الوطني انه باستخدام مايكروسكوب المسح المقطعي مع تطورات تصميم النماذج بالحاسب الآلي نستطيع وضع نموذج عن كيف تنظم الجزيئات نفسها تحت تأثير مادة مساعدة دون القيام بتجارب مضنية من البحث والتنقيب. وسوف توفر لنا مصاهرة الحاسب الآلي ومايكروسكوب المسح المقطعي البيانات اللازمة لتشكيل كثير من المواد الجديدة لعصر الصناعة الكلية.
ولا بد من اعادة تدوير تلك المواد الجديدة في عملية بنائها.. واحد الامثلة هو الاستخدام الجديد للرماد المتطائر وهو احد ترسبات الفحم الحجري في صناعة اشكال جديدة من الخرسانة.. وطبقا ل«رونالد ليفي» نائب رئيس شركة الاستشارات آرثر دي، ليتل «ان استخدام الرماد المتطاير المنبعث من مولدات الطاقة التي تعمل بالفحم كمادة مضافة الى الخرسانة قد تمت مناقشته لعشرين عاما ولم يحدث اي تطور.. ولكن الاعتبارات البيئية حول توسع المدن والنقص المتزايد في الاخشاب قد يساعد في ادخال الرماد المتطاير في الخرسانة لبناء مبان مرتفعة لاسكان فعال».
وأخيراً يبدو في الافق ان الاستفادة من الرماد المتطاير (وهو الجزئيات غير القابلة للاحتراق وتتواجد في الغازات الصاعدة من مكان الاحتراق) وذلك من خلال تطوير اسس التصميم واضافة المركبات الكيميائية المبلمرة وتحسين في الاجراءات. ويعتقد ليفي ان الخرسانة بالرماد المتطاير قوية بدرجة يمكن ان تفتح الطريق لبناء ناطحات سحاب من 200 طابق وهياكل اخرى كان من المعتقد انه لايمكن بناؤها.
محاكاة المخلوقات (BIOMIMETICS):
وكثير من تلك الاكتشافات كان الهامها من الطبيعة والحياة نفسها.. وللمساعدة في تطوير مواد اكثر تحملا درس «الهان اسكاي» استاذ علوم المواد والهندسة بجامعة واشنطن أذن البحر (ABALONE) حيوان رخوي بحري واستغرب اسكاي قوة غلاف «قشرة» ذلك الحيوان الرخوي وصعوبة كسره، وبالنظر الى الغلاف من خلال مايكروسكوب الكتروني اكتشف ان تركيب ذراته قريب الشبه الى حد كبير بتركيبة السراميك.. واستخدم اسكاي قشرة اذن البحر كنموذج لترتيب جزئيات مادة جديدة يجري اختبارها الآن كدرع دبابة مقاوم للهجوم اكثر تحملا ضعف السراميك الاصطناعي الذي يتم استخدامه حاليا.
ووجد اسكاي والآخرون انفسهم يعملون في مجال جديد كلية للمواد تمت تسميته بيوممتكس (BIOMIMETICS) حيث يقلد العلم التركيبة الموجودة في الطبيعة.. وسوف تستفيد الطائرة الفضائية المقترحة التي ورد ذكرها سابقا والتي سوف تدخل مدارا منخفضا خلال رحلتها التي تستغرق ساعتين من نيويورك الى طوكيو من البيوممتكس.. وسوف تحمل تلك الطائرة وزنا اكبر من المكوك الفضائي ولكن يجب ان لاتزيد عن المكوك لكي تصل سريعا الى السرعة اللازمة لمهمتها الفريدة.. ويدرس الباحثون الهيكل الخارجي القوي للخنفساء القرنية والخفيف الوزن في نفس الوقت على امل تقليد المادة المرجوة في قشرة الخنفساء لاستخدامها في انشاء الطائرة الفضائية.
لماذا هذه الخنفساء؟.. طبقا للباحث «فرد هدبيرج» من السلاح الجوي عندما تبنى الطبيعة غلافا واقيا لحشرة ما تسمح لها ايضا بالتنفس من خلاله وتعزله وتوفر كافة اجهزة الاحساس.. كما اندهش الباحثون لسهولة ومرونة تكيف الخنفساء وفقا للتغير الطارئ ونظامها في السيطرة على التدمير الكامل.. ويشك الباحثون في ان يكون الهيكل الخارجي للخنفساء يتكون من الياف قد تكون نفسها مكونة من مواد اكثر تعقيداً من المواد التي جرى تطويرها مؤخرا.
قدوم المواد الذكية:
يود بعض المهندسين اضافة نوع من الذكاء الخام للمواد وملئها بالاعصاب والعضلات الاصطناعية.. ويقوم باحثان من جامعة ولاية ميتشجان بتطوير مروحة هيلوكبتر لاتحس بالاضطراب فقط ولكنها تستطيع ان تتصلب ايضا كاستجابة لتلك التغييرات الجوية.. ويقوم بروفسور علم حالة المواد الصلبة من جامعة ولاية بنسيلفانيا بتطوير مادة خفية لهياكل الغواصات تستطيع ان تنثني لتغيير الشكل وبهذا تخفض الاضطراب تحت الماء.. وهذا التطور سيجعل اكتشاف الغواصات ليس ممكنا بواسطة انظمة التصنت تحت الماء.
ويكمن سر تحويل المواد الى ذكية في خلطها بمواد ليست ميكانيكية لديها الطاقة لتغيير اشكالها او اوضاعها الفيزيائية دون استخدام اجزاء متحركة.. ويعمل ريش مروحة الهيلوكبتر بهذه المبادئ.. حيث يستخدم الباحثون مايسمى السوائل الالكتروهيولوجية (ELECTRORHEOLOGICAL FLUIDS) التي تستطيع التحول من سائل الى جماد في جزء من المليون من الثانية عند تلقيها لتيار كهربائي صغير.. وبنثر تلك السوائل في السراميك من الممكن بناء ريش مروحة تستطيع التصلب فورا عندما تخطرها اجهزة الاحساس بحصول تلف او اضطراب.
ويجهز العلماء والمهندسون حالياً المواد المستخدمة في صناعة السيارات والجسور بأجهزة احساس واجهزة آلية.. كما طور الباحثون ما اطلق عليه انظمة التعليق الذكية في السيارات لكبح وإضعاف الذبذبة، وتستطيع الجسور الذكية المليئة بأجهزة الاحساس تحذير المهندسين اذا كان هناك عجز او قصور في بعض عوارض الجسر.
تنامي المواد: تكنولوجيا النانو مرة اخرى:
سيكون احد مفاتيح ثورة المواد هذه هو ظهور معجزة النانو تكنولوجيا.. وقد لاحظنا من قبل كيف ان هذه التقنية سوف توسع تحكم البشر في البناء الاساسي للمادة والبحث في تطبيقها في مجالات مختلفة مثل الطب.. وكما سنرى لن تساعد تكنولوجيا النانو في اعادة بناء الجلد والاعضاء الداخلية في جسم الانسان فحسب، ولكنها سوف تعيد صياغة مفهومنا نفسه حول ندرة وتوفر المواد.
ومرة اخرى سنتحدث عن آلات دقيقة قادرة على التحكم في الذرات كل على حدة واعادة تنظيمها.. والآلة التي تستطيع القيام بذلك بحجم ذراعها الصغير الذي يعادل حجم الجزئيات وحاسب آلي بحجم الذرة ستكون قادرة على بناء اي شيء تقريباً بربط الذرات الصحيحة مع بعضها في الشكل الصحيح.
ويتخيل الخبير «أريك دريكسلر» هذه الطريقة في صناعة محرك كبير لصاروخ داخل راقود «إناء كبير» في مصنع.. وقد صنع الراقود من فولاذ لامع بطول اكبر من طول الانسان لانه لابد ان يسع المحرك بأكمله.. ويتم غمر الراقود بسائل كثيف بلون الحليب بحيث يغطي اللوح.. وتقوم اجهزة التجميع والالتفات والنسخ والحواسب الآلية النانو بالعمل لتنمية المادة (GROWING MATERIAL) اي انتاج المحرك.
وستكون النتيجة محركا ولكن ليس قطعة ضخمة من المعادن الملحومة والمرتبطة بالمسامير بل قطعة واحدة من دون لحام او ربط مثل الجواهر.
وعليه فان هذه الصناعة يمكن ان تكون رخيصة وسريعة ونظيفة وفعالة.. وتتضمن آلات دقيقة تعالج المادة في شكل الجزئيات مما يجعل الامر سهلاً لكي تعمل تكنولوجيا النانو ومن الممكن استخدام معدات صناعة الجزئيات لصناعة كل الاجزاء المطلوبة لبناء معدات اكثر جزئيات ومن الممكن ايضا بناء الآلة التي تقوم بربط الأجزاء مع بعضها البعض.
والآلات الأخرى المستخدمة في تكنولوجيا النانو العالمية تشمل اجهزة تجميع مختلف النكهات ومختلف الحواسب الآلية النانو واجهزة التفكيك «لتحيل تركيبة المادة الداخلية لكي يتم تقليدها ونسخها» واجهزة نسخ واجهزة اخرى. وقدرة تكنولوجيا النانو لهندسة المنتجات من مستوى الذرة قد تقود الى وفرة صناعية..وحقيقة فإن بعض التطبيقات مدهشة منها:
منتجات جديدة:
لأننا نستطيع بناء المنتجات ذرة فذرة فسوف تجلب لنا تكنولوجيا النانو تحكما دقيقا في تركيبة المادة.. فعلينا فقط تخيل شكل وحجم ومرونة وتصميم المنتج في اطار ثلاثي الابعاد في حاسب آلي رئيسي واصدار الاوامر لأجهزة التجميع والحواسب الآلية النانو.
منتجات موثوق بها:
تخيل صناعة منتجات اقوى بعشرة اضعاف من الفولاذ واكثر مرونة لابد لصناعة الجزئيات ان تسمح للبشر بترتيب الذرات لاكتساب تلك الخصائص.. وهكذا يمكننا الحصول على طائرات تم تأمينها ضد سلبيات الصناعة الحالية التي تتسبب في كوارث في بعض الاحيان مثل انفصال الاجنحة عن الطائرات.
المنتجات الذكية:
وتعدنا تكنولوجيا النانو بمواد وأشياء تحتوي على ترليونات من الموتورات والحواسب الآلية الدقيقة مكونة أجزاء تعمل معا لتؤدي وظيفة مفيدة.. مثلا لدينا توقعات بصناعة خيام تتكون من اجزاء تتزلق وتنقفل واثاث يتم صنعه بحيث يستطيع اصلاح نفسه بدلا من التلف. وحاليا هذه الاحتمالات بعيدة عن تخيلنا ولكن عندما تصبح جزءاً من حياتنا سوف نستغرب كيف يمكن ان نعيش بدونها.
انتاج نظيف ورخيص:
والاهتمام البيئي الرئيسي للصناعة هو مخلفاتها من التلوث والنفايات السامة وهكذا.. وفي تكنولوجيا النانو ستكون حتى الأجزاء المعقدة جداً من العملية الصناعية بما في ذلك الحواسب الآلية النانو واجهزة التجميع قابلة للتحلل الحيوي (BIODEGRADABLE).
والبلد الذي يتقدم في تلك التقنيات التي تحقق الوفرة سيكون قد قطع شوطاً للوصول الى قيادة العالم في عصر الصناعة الكلية.. وقامت وكالة التكنولوجيا والعلوم اليابانية باستطلاع 2000 عالم ياباني حول توقعاتهم عن التطورات الرئيسية المتوقعة بالمواد في المستقبل القريب.. وتصدرت قائمة توقعاتهم في هذا الشأن تجارة موصلات السراميك السوبر وانتشار استخدام المواد الدقيقة.
وبينما زادت اليابان تمويل تلك التقنيات مثل تكنولوجيا النانو انخفضت مساعدة الولايات المتحدة للتمويل غير العسكري لأبحاث المواد عامة. ويجب ان تزيد حكومة وصناعة الولايات المتحدة من مخصصات البحوث والتطوير في هذا المجال العام اذا كانا يريدان اقتصاداً صالحاً لعصر الصناعة الكلية.
تحويل النباتات إلى طاقة:
لن تحدث وفرة المواد من خلال تكنولوجيا النانو وإعادة خلط المواد فقط بل ستلعب مع البيوتكنولوجيا دورا عظيما وقويا في تنمية المواد مثل دورها في زيادة إنتاج الطعام والأغذية. وقد تعني اكتشافات جديدة في البيوتكنولوجيا تموينا لا حدود له من وقود نظيف الاشتعال للسيارات. بالاضافة إلى أن ذلك الوقود سيكون رخيصا.
وطبقا لما ذكرت«لوني انجرام» بروفسير المايكر وبيولجي وعلوم الخلية في معهد جامعة فلوريدا لعلوم الأغذية والزراعة«لأول مرة تتم هندسة الباكتريا وراثيا بحيث تستطيع تحويل السكر من مواد نباتية إلى اثانول».. واستطاع الفنيون تعديل كائنات تنتج حوامض عضوية كمنتجات للتخمير وتحويل عملياتها الكيمائية في الخلايا الحية(الأيض) (METABOLISIM)) ببساطة إلى اثانول.
ونحن نعمل منذ مدة طويلة لإنتاج بديل للبترول كوقود للسيارات بصورة واسعة.. وحاليا يعتمد إنتاج الاثانول على نشويات الذرة الشامية أو قصب السكر كمواد حيوية كبيرة.. والآن بعد نسخ الجينات لباكتريا ووضعها في باكتريا أخرى نستطيع تحويل نفايات الخضروات وسيقان الاشجار وأوراقها والجذور والمواد الخشبية إلى اثانول.
ولحسن الحظ فالاثانول وقود نظيف الاشتعال يمكن استخدامه لتخفيض تلوث الهواء والحاجة إلى الزيت من خارج البلاد.. وفي عام 1990م كان إنتاج الاثانول يكلف1.2 دولار أمريكي للجالون بينما يكلف البنزين أكثر من ذلك بما يوازي الثلث.. وبإنتاج الاثانول باستخدام أساليب بيوتكنولوجية سوف تنخفض تكاليف الاثانول إلى النصف.. وهذه المادة التي لا تلوث البيئة وتستخدم الآن في البنزين عالي المستوى (الممتاز) بدلا من المواد المضافة المعروفة قد تقضي على الحاجة للبنزين كلية. وهذا مثال آخر على الهجوم المتعدد الجوانب على الندرة والوصول إلى الوفرة.. وحقيقة أن البيوتكنولوجيا التي يتم انتقادها من قبل بعض المدافعين عن البيئة بأسلوبهم سوف تساهم في تنقية الجو وتؤكد النتيجة الطبيعية الثالثة من حتمية النمو: نحن نطور البيئة بتبني تقنيات أكبر تعقيدا وليس بتخفيض مهاراتنا الفنية والتقنية.
تطوير الأساليب القديمة:
رغم أننا ركزنا في اكتشافات المواد الغربية إلا أننا في عصر الصناعة الكلية سوف نستمر في استخدام المعادن التقليدية التي ساعدت في بناء الحضارة مثل النحاس والحديد والخام والزنك والبلاتينوم والفضة وحتى الذهب.. وبينما نستمر في تطوير تقنيات ومواد أكثر تعقيدا ستواجهنا أخبار جيدة في بداية القرن الحالي الحادي والعشرين وهي أنه رغم التوقعات المتكررة بأن كافة المواد الأساسية ستنقص كثيرا إلا أن البيانات لا تساند هذا الرأي المتشائم.
وقدمت مجموعة مميزة من خبراء الموارد في الثمانينات تقريرا تذكر فيه أن اتجاهات التكلفة للمعادن (غير العضوية) والتي لا تستخدم كوقود خلال الفترة من 1950م إلى 1980م لا تؤيد الفرضية بأننا نقترب من ندرة في المعادن الأساسية. وفي الحقيقة فإن أسعار المواد الخام انخفضت عندما تتم مقارنتها بما ندفعه للسلع الاستهلاكية كما يتم قياسها بفهرس أسعار المستهلك.
ومع أن الرأي الضعيف القائل بأن المعادن سوف تنضب قريبا يتم تفنيده يوميا على أرض الواقع إلا أن كثيرا من أنصار اللانمو (ZEROGROWTH) يدعون أن المواد من كافة الأنواع على حافة الاختفاء. وفي عام 1980م تم رهان شهير بين «بول اهريتش» قارئ المصير المشهور والديموغرافي «جوليان سيمون» حول اتجاه أسعار المواد الخام.. وتحدى سيمون اهريتش بمبلغ 100 دولار أمريكي كرهان بأن المواد ستكون أرخص عام 1990م بالمقارنة بفهرس الأسعار، وقد كسب سيمون الرهان.
وكان جوليان سيمون عام 1980م متأكدا من أن المعادن الرئيسية سوف تصبح أرخص لأنه كان يفهم أنه بمرور الزمن سيكون استخدامنا لتلك المواد فعالا أكثر وسوف تتحسن التقنية.. ووضع في الاعتبار الاكتشافات في المواد المتقدمة وتكنولوجيا النانو وامكانية أن يكون هناك هيلوم 3 وتيتانيوم في الكوكب وبقية أنحاء الكون ولا شك أن سيمون إذا راهن اليوم فسوف يزيد من مبلغ الرهان بافتراض أن المكسب مضمون.
زيادة السكان في عصر الصناعة الكلية:
تقول حتمية النمو بجلاء إن النظام لكي يؤمن استمراره لابد أن ينمو.. ويصدق هذا المعتقد عند تطبيقه على النمو المادي أو الفني أو الاجتماعي أو الاقتصادي.. وهذا المبدأ ينطبق أيضا على النمو السكاني بالتأكيد.
وقد أوضحت الصفحات السابقة أن البنية الحتية للمواد والزراعة مع ابداع الجنس البشري لإيجاد أشكال متقدمة من الطاقة وكميات كبيرة من الغذاء سوف تدعمان سكانا يزيدون أضعافا على السكان الحاليين.. وبالرغم من أن هذا الفصل قد شرح أن جزءا كبيرا من السكان يمكن دعمهم إلا أن كثيرين لا يزالون يتساءلون عما إذا كان يجب تشجيع النمو الديمغرافي( السكاني).. ويتساءل آخرون هل نقف ضد تشجيعه؟ فلدينا كمية كافية من البشر، إذا لم نقل وفرة زائدة عن الحد؟.
والجواب القاطع لا.. فزيادة السكان رغم معارضة علماء الاكولوجي(علاقة الكائنات والبيئة) ومؤيدي اللانمو في الواقع تفيد المجتمعات.. وفي القرن التاسع عشر تماشى النمو السكاني مع النمو الاقتصادي السريع.. ووضعنا اليوم أننا نحتاج إلى عدد أكثر من الناس وليس إلى عدد أقل للاستمرار في تعزيز رفع مستوى معيشتنا الكيفي والتوسع الكمي في البضائع والخدمات المتوفرة.
وبعكس النظرية التقليدية اللانمو(النمو الصفر) هناك أسباب قوية لتشجيع النمو السكاني.
النمو السكاني يحفز النمو الاقتصادي:
إن السبب الأول لفوائد تشجيع نمو السكان ينبع من العلاقة الايجابية بين زيادة السكان والانتعاش الاقتصادي.. ورغم تحيز الاعلام العاطفي لوجهة النظر بأن اللانمو (النمو الصفر) هو عنوان السياسة الاقتصادية الفعالة إلا أن الدراسات التجريبية فشلت في اثبات مثل تلك العلاقة. لا حظ أن بلدانا كثيفة السكان مثل المانيا الغربية وهولندا واليابان: جميعها لديها مستويات عالية من دخل الفرد والإنتاجية.. وأيضا سنغافورة وهونج كونج وتايوان تفتخر بأن إنتاج الفرد لديها هو الأعلى في العالم. بينما بلدان بكثافة سكانية أقل مثل الهند والصين( نعم هذه حقيقة بأن الكثافة السكانية في هذين البلدين أقل) لديهما مستويات من دخل الفرد أقل بكثير من الإنتاج الاقتصادي.
والعلاقة تكمن في حقيقة أنه كلما كانت الكثافة السكانية في المنطقة أكثر يستفيد السكان بصورة أفضل من أنظمة مواصلاتهم ونقلهم والأجزاء الأخرى من بنيتهم التحتية.. والأهم من ذلك فإن الاعضاء من تلك المجموعات لديهم فرص كبيرة من الاتصال وجها لوجه مما يشجع التجديد والانتاج. ومن الصعوبة تسجيل الحدث بأن النهضة الأوربية في القرن السادس عشر كان قد سبقتها معارض المدن ونمو المناطق المدنية في آواخر القرون الوسطى.. حيث سهل الاتصال والتداخل الإنساني الذي تم في المدن الصغيرة(ومعارض التجارة التي اقيمت فيها) سهل حدوث الانفجار الثقافي الذي نطلق عليه النهضة الأوربية.
ويصل البحث الذي قدمه«جوليان سيمون» إلى خلاصتين غير مشروطتين فيما يتعلق بالنمو السكاني.. رغم أنه اعترف أن البحث لم يكتشف نسبة نمو ديمغرافي(سكاني) مثالية إلا أنه طبقا للمبادئ الاقتصادية فإن السكان المتناقصين دائما ينتجون أقل في المدى الطويل وثانيا أن كافة معدل المواليد المرتفعة عن نسبة الوفيات ترفع الدخل المستقبلي.. وقد تم اثبات ذلك في كثير من الدراسات التجريبية.. حيث ينتج السكان الذين يزيدون بسرعة أكبر كمية أكبر من العمال مما يعني إنتاجاً أكثر.. بالاضافة إلى أن رأس المال والآلات والسلع الأخرى تزداد بالتناسب مع القوى العاملة.
وفي عام 1967م أوضح «سيمون كوزنتس» أن نمو السكان السريع ليس عائقا للتطور الاقتصادي السريع ضاربا المثل بتايلاند والمكسيك وبنما والاكوادور والأردن.
الكثافة السكانية تجذب الاستثمار:
والسبب الثاني لتشجيع النمو السكاني هو أن النمو السكاني يجذب الاستثمارات الخارجية ومن ثم تتدفق أموال أكثر لبناء الاقتصاد.. فمثلا ماليزيا ذات النسبة العالية من النمو السكاني من 2 إلى 03% في السنة (التي دائما ما يتم تعييرها بهذه النسبة العالية من التوليد) حققت استثمارات عام 1985 م وصلت إلى 28% من دخلها الوطني غير الصافي مقارنة بالنمو المنخفض 19% في الولايات المتحدة.
ويستثمر الناس عندما يتوقعون فوائد وأرباحا من استثماراتهم، حيث إن الفوائد والأرباح ما هي إلا نتيجة لفاعلية نمو الموارد المادية ومستوى معدل التعليم وليست نتيجة لمعدل المواليد. وبغض النظر عن الكثافة السكانية فإن البلد الذي يتمتع بنسبة عالية من السكان المتعلمين تعليما عاليا سوف يجذب الاستثمارات.
النمو السكاني يزيد الجينات الإنسانية:
والسبب الثالث ويعتقد البعض أنه الأكثر أهمية يرتبط بالمواهب الإنسانية.. فالأعداد الأكبر من السكان تزيد من الفرص بأن انشتاين أو فرويد أو بيتهوفن القادم سوف يولد. وكما رأينا فإن حتمية النمو تتضمن زيادة مضاعفة في اجمالي الفوائد الصافية التي يستطيع الفرد تقديمها للمجتمع.. فانشتاين واحد لا يفيد فردا واحدا آخر ولكن معارفه تمتد إلى كل المجتمع.
ويدور الرد العام لهذا الجدل حول حقيقة أن عدد السكان القليل في سويسرا والمانيا والأماكن التي لا ينمو فيها السكان مثل الولايات المتحدة تسيطر على عالم العلوم والتجارة والتعليم.. والإجابة بسيطة: نعم لاحظ كيف أن تلك المجتمعات توسع قاعدة مواهبها من مجموعات الجين الوراثية التي تطورت في الهند وتايوان. فهي توسع قاعدة مواهبها باستمرار باضافة أفضل وأذكى ما يوجد في الدول النامية.
عدد السكان الكبير أكثر كفاءة وفاعلية:
تقدم البحوث دليلا لا يمكن إنكاره أنه كلما كان عدد السكان أكبر وكثافتهم أكثر مارس السكان إدارة جيدة للأرض وأفراد الجماعات بعناية أفضل بالأرض وقاموا بمحاولات لتأمين ممارسات صحية أكثر وتوفير المرافق الخاصة بالعناية بقضايا مثل المجاري.. وهذه النتائج تتناقض مباشرة مع الفرضية العامة أن السكان الكثيرين حمل ثقيل على الأرض والمواد والهواء والمساحة والموارد الطبيعية الأخرى .
وهناك عوامل أخرى تجعل النمو السكاني طريقا جذابا لاتباعه.. فقد برهنت الدراسات أن عدد السكان الكبير يستخدم البنية التحتية بفاعلية أكثر في كل شيء من وسائل نقل حديثة وأنظمة مواصلات إلى التعليم والكهرباء والري وأنظمة التخلص من النفايات.. والأهم من ذلك أن ذلك النمو يقدم لتجارة الأعمال سوقا بحجم جيد مشجعا المؤسسات للتخصص وتطبيق طرق خفض التكاليف الخاصة بالإنتاج الواسع.
وصحة الجدل المذكور آنفا يتم الاعتراف بها دون وعي من مختلف المراقبين حتى أولئك الذين يؤيدون النمو الصفر للسكان في الأحوال العادية. وفي الحقيقة ان التناقض الداخلي في فرضية «النمو الصفر» من الممكن اكتشافه أثناء النقاش حول انخفاض السكان في الغرب وتأثيره المقترن بامدادات العمالة.
بعد الارتفاع خلال الخمسينيات والستينيات بدأ حجم العمالة بالغرب في الركود، وهناك بعض النمو في حجم العمالة بالولايات المتحدة من 1985م إلى عام 2000م ولكن في معظم البلدان الغربية الأخرى سوف تستقر أعداد العمالة أو تبدأ في الانخفاض.. وباختصار يواجه الغرب قوى عاملة راكدة في طريقها للانخفاض.
وتفاعلا مع تلك الأرقام سألت نشرة هارفارد «نظرة على إدارة الأعمال» في تقرير حول القوى العاملة العالمية عام 2000م سؤالا ساخرا: «هل تستطيع البلدان المتقدمة المحافظة على النمو الاقتصادي بينما تتوقف القوى العاملة لديها عن النمو؟» وما يجعل ذلك قولا مدهشا ما أعلنه نادي روما قبل عشرين عاما فقط بأن النمو السكاني سوف يقوض الاستقرارالعالمي والحالة الاقتصادية.. وعندما تبدأ السياسة العقيمة لعدم النمو السكاني(النمو الصفر) في اظهار تأثيراتها الضارة سوف يضطر صانعو السياسة الى التساؤل: من أين سنأتي بمهندسين ومصممي برامج وقيادات التجارة وإدارة الأعمال والعلوم؟.
ومن الممكن القول إن الكثافة السكانية تزيد في الحقيقة الكيفية الجمالية للوضع الإنساني.. فبعض أجمل المدن العالمية مثل سان فرنسيسكو وباريس ونيويورك وبوسطن مزدحمة بالسكان.. حيث تلهم الكثافة السكانية معمارا فريدا وتصاميم خلاقة.
وفي الحقيقة ربما يكون الوقت قد أزف للبشر لاعادة النظر في مفهوم الكثافة بأكمله.. فمقدرة عصر الصناعة الكلية المذهلة في بناء جزر صناعية ومدن تحت الأرض ومبان ضخمة لا يؤثر فيها البلى والقدم بفعل الزمن تجعل فكرة الكثافة السكانية عتيقة وبالية بنفس القدر الذي أعادت فيه ناطحات السحاب من قبل صياغة مفهوم الازدحام.. وفي الحقيقة عندما يحتاج الناس إلى أراض يستطيعون أن يخرجوا ويهيئوا ذلك.
استمرار ويقوم الاسرائيليون باصلاح صحراء النقب باستخدام الزراعة المائية (HYDROPONICS) التقنية الزراعية التي تقوم بتدوير الماء والعناصر المغذية والتي لا تسبب تلوثا للبيئة وتحتاج إلى أرض صغيرة ولا تحتاج إلى تربة على الاطلاق.. وما زالت هولندا تستصلح الأراضي من البحر منذ قرون مضت.
وبين عامي 1951م و1971م ازدادت ايكرات الأرض الصالحة للزراعة20% في الهند.. وفي الحقيقة سيندهش معظم الغربيين المتأثرين بالاعلام الاليم حول التوقعات لمصير ذلك البلد عندما يكتشفون أن الهند الآن ليس بها كثافة سكانية.. فبقياس عدد الأفراد في كل ايكر صالح للزراعة لا يمكن اعتبار اليابان أو تايوان تعاني من سوء التغذية وهما أكثر كثافة سكانية من الهند بنحو خمس مرات.
وهكذا يبدو أن الجدل بأن النمو السكاني سوف يفوق امدادات الغذاء والمواد والطاقة لن يصمد في وجه التدقيق التجريبي.. وبالرغم من ذلك فإن أنصار الدفاع عن اللانمو السكاني(ZERO
GROWTH) الذين يظهر صوتهم من وقت لآخر لا يعيدون إثارة مثل
هذا الجدل التحذيري ويستغلون المخاوف المزروعة في عمق النفس الإنسانية منذ فجر البشرية: الموت جوعا بالجملة والقحط والمعركة البيئية الفاصلة(ARMAGEDO).
ومن الممكن تجاهل هذا الجدل المعارض بسلام.. فعدد سكان العالم الذين يبلغون حاليا حوالي خمسة بلايين نسمة سوف يصل بعد نصف القرن الحالي إلى الضعف.. ما هي الظروف التي يجب أن تتوفر لزيادة خمسة بلايين نسمة من السكان؟ أولا تجب أن يكون السكان في صحة جيدة وأن يكونوا بدنيا أصحاء لانجاب أطفال أصحاء وأن يبقوا في صحة جيدة للعناية بالأطفال وأن ينتجوا البضائع والخدمات لدعم الأجيال القادمة.
وبمعنى من المعاني قلب مؤيدو اللانمو السكاني الجدل رأسا على عقب للترويج لمفهوم غير منطقي اطلاقا.. كيف يستطيع مجتمع جائع بصحة سيئة ومتخم بالأمراض(الحالة التي يفترضون أننا سوف نصل إليها) مقاومة التحلل المجتمعي والبقاء والمعيشة إذا استمرت زيادة سكاننا وتضاعف عدد السكان الحالي فقط؟ وتلك الكوارث الإنسانية مثل المجاعة والجفاف والوباء هي العوامل التي منعت الإنسانية من الوصول إلى توسع سكاني كبير.
وبكلمات أخرى إن توسعنا من 5 بلايين إلى 11 بليونا بدلا من أن يكون علامة على القصور والتدهور سيكون برهانا ايجابيا على أن عصر الصناعة الكلية قد أوفى بما وعد به من مجتمع صحي يستطيع الحصول على غذاء جيد ومجتمع عالمي متقدم تكنولوجيا يستطيع دعم 5 بلايين نسمة اضافيين زيادة على الذين يعيشون في الكوكب الأرضي.
وفي الحقيقة إن اعتبار الطفل الوليد فماً يتم اطعامه بدلا من عقل سيساهم في المعرفة العالية ويد تساعد في بناء العالم يعكس تحيز المراقب وتشاؤمه عوضا عن أي حقيقة نعرفها.
مما ذكر أعلاه من الواضح أن الاكتشافات التقنية وتطور مواد عصر الصناعة الكلية سوف تساعد في معيشة سكان أكثر بكثير. وفي نفس الوقت سيساهم النمو السكاني في توفير العمالة والابداع اللازم لمساندة التطور المستمر للجنس البشري.
مضامين بشرية:
كما رأينا فإن ذلك التقدم في حقول الزراعة والطاقة والمواد يؤكد قدرة الإنسان على التغلب على القيود الطبيعية واعادة صياغة مفهوم المحدودية واللانهاية.. وعلامات ذلك التقدم كثيرة.
ونستطيع أن نرى الضوء في نهاية النفق للقضاء على الجوع وسوء التغذية من وجه الكوكب.. وكما نتوقع أن البشر سيعيشون حياة أطول وأكثر صحة.. وكلما تخلص أفراد من البشر من الجوع وسوء التغذية سوف يصبحون مساهمين في الاكتشافات العلمية والتكنولوجية القادمة التي سوف تحسن أحوال الإنسان.
وبالطبع لن يتم تحقيق الاخصاب (الوفرة) (CORNNCOPIA) دون أن يواجه البشر تغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة سيكون بعضها زلزالا.. لأن معظم التطورات التكنولوجية مهما كانت أهميتها للجنس البشري عامة سوف تشرد بعض الأعضاء.. وقبل مائة عام اخترع رجل صبغة زرقاء صناعية استطاعت أن تحل محل أحد أهم المحاصيل النقدية في العالم «النيلة» (INDIGO). واليوم أثرت صناعة الفركتوز من عصير الذرة الشامية الذي تصنعه عملية تساندها البيوتكنولوجيا سلبيا على الأقطار المنتجة للسكر مثل الفلبين.
وأيضا هناك تأثير اقتصادي واجتماعي للتطور في الزراعة.. ومن المتوقع أن يقل عدد المزارعين في الولايات المتحدة ليصل إلى 1.25 مليون بحلول عام 2001م أي أقل ب 900.000 من العدد الآن .. ورغم الازدهار الذي حصل عند نهاية القرن سوف تكون الزراعة مشروعاً هندسياً اكثر من كونها تجارة ريفية عائلية وسوف يتحول واجب زراعة الأغذية للبيولوجيين والأخصائيين الفنيين.
ولكن الهدف يبرر هذا التحول فقد تحدد الثورة الزراعية وثورة المواد بداية انتهاء الفقر، فإذا كان منشأ الفقر الندرة فيجب أن تلعب البيوتكنولوجيا وتكنولوجيا النانو دورا نشطا في نفي ندرة الموارد والطعام إلى دنيا الاساطير والتاريخ القديم.
هذه هي البداية فقط:
والمعركة لتحقيق تلك الأهداف قد بدأت لتوها.. ويجب أن يجتهد العالم ليس في تقنية إنتاج الطعام والمواد فقط بل ايضا في تشجيع نظام اقتصادي عالمي يضمن استفادة جميع البشر من المنافع والفوائد.
والأكثر أهمية من كل ذلك هو دعم الثقافة للتوسع المستمر في قاعدة المعرفة والموارد والمواهب.. ويضع النقاد السياسيون والأكاديميون والاعلاميون حواجز سلبية من الحملات ضد التقدم في البيوتكنولوجيا والهندسة الوراثية. وبالرغم من قدراتنا المعززة لزيادة قاعدة الغذاء والمواد إلا أن الاعلام (بما في ذلك سي. إن.إن «C.N.N»ومجلة التايمز) استمر دون هوادة في توقعاته الأليمة التي تنذر بكوارث حول الجفاف والقصور والنقض.. ويقدم المحذرون خطبا رنانة حول مخاطر النمو السكاني إلى درجة أن الجمهور يقبل البيانات غير الدقيقة.. وقد أعلن «اورفيلي فريمان» الحاكم السابق لولاية مينسوتا وسكرتير الولايات المتحدة للزراعة في فترتي حكم الرئيس «كيندي» والرئيس «جونسون» بيانات تتنبأ حول قضايا الطعام والسكان والدولة النامية.. وردا على اتجاهات النقاد المحذرين من علماء بيئة وغيرهم ذكر أننا سوف نواجه مخاطر أكبر إذا لم نستمر في النمو والتجارب الزراعية.
ويقول فريمان:« يجب أن تحافظ الولايات المتحدة على انتاجيتها عالية لكي تقدم المساعدة الغذائية للجياع وتشجيع الزراعة في العالم النامي» وبكلمات أخرى يجب أن تكون الولايات المتحدة مصدرا للطعام والأهم من ذلك مصدرا للمعرفة حول كيفية زراعة الطعام.
وطبقا لفريمان«أي برامج داعمة ومعززة لزيادة الإنتاج الزراعي حول العالم لابد أن تتضمن تطوير وتطبيق تقنيات المحاصيل والأغذية» باختصار إن تبني مايسمى بوجهة نظر بيئة ومقاومة للبيوتكنولوجيا سيكون معادلا للحكم على ملايين من العالم الثالث بمستوى معيشي في حد البقاء أو أسوأ من ذلك. وإذا كان هناك شيء يقود إلى الجوع المهلك فهو تبني وجهة نظر معادية للتكنولوجيا.
الحاجة إلى ثورة خضراء:
تناضل اليوم كثير من البلدان النامية للبقاء والعيش وأقل من ذلك بينما إنتاج الولايات المتحدة الزراعي حاليا يزيد 40% من الحاجة المحلية.. وتم تحقيق ذلك الفائض حتى بعد أن تركنا ملايين الفدادين (الايكرات) الصالحة للزراعة خالية وشجعنا المزارعين ألا يطوروا أراضيهم.. ومن الواضح أن بعض البلدان قد أجادت التكنولوجيا التي تقود إلى الوفرة الزراعية ووفرة المواد بينما لم تفعل ذلك بلدان أخرى.
ومن الواضح أيضاً أن العالم الثالث يحتاج إلى ثورة خضراء أخرى.. وعلى أي حال في عصر الصناعة الكلية تتضمن تلك الثورة تطبيق التكنولوجيا والمهارات على مشاكل العالم الثالث.. وفي بعض البلدان حيث لاتكفي امدادات الغذاء السكان فإن السبب ليس الجفاف أو الكوارث الطبيعية بل نقص التكنولوجيا.. ومعظم التقدم الذي تم في العالم الثالث خلال القرنين الماضيين كان بسبب استيراد المهارات من البلدان المتقدمة تكنولوجيا.. ويجب أن نستمر في هذا الاتجاه إذا كان لابد أن يصل العالم الثالث ككل بسرعة إلى اكتساب المهارات والتكنولوجيا.
وبالرغم من أن كثيرا من المراقبين قد اقترحوا توريد كميات كبيرة من الأغذية للدول النامية إلا أن البعض يحذرون من أن مثل تلك المساعدات يجب أن تعتبر كمساعدة مؤقتة لحالات طارئة.. ووجهة النظر هذه لا تنبع من عدم الرغبة في مساعدة الآخرين ولكن من الاعتقاد بأن ما يسمى بالأعمال الخيرية قد بدأت تقوض تطور الزراعة المحلية للبلدان التي تمت مساعدتها. وقد أدت الأغذية المقدمة كمساعدة والرخيصة الثمن إلى تخفيض أسعار منتجات المزارعين المحليين مما أخرجهم دون قصد من التجارة وخارج البيئة التي يستطيعون فيها تطوير وتجديد التقنيات الزراعية. وفي السنوات القليلة الماضية دمرت تلك المساعدة الخارجية مصادفة تطور العالم الثالث.
ولكن الأخبار الجيدة أن المجتمع الدولي في بداية عصر الصناعة الكلية لديه التكنولوجيا والموارد لمساعدة العالم لاطعام نفسه وتلبية احتياجات النمو السكاني.
وبالرغم من أن لدينا بالتأكيد القدرة المادية على تلبية تلك الاحتياجات إلا هناك سؤالا لا يزال يحتاج إلى اجابة وهو هل لدينا العزيمة للنجاح في هذه المغامرة؟.. يعدنا عصر الصناعة الكلية بأنه العصر الذي يعيش فيه الناس 200 سنة ويعيشون في مستوى وصحة أفضل عما كان من الممكن تخيله ويبدأون السكن في الكون الخارجي.. ولتحقيق هذا الوضع يجب أن يتغير كل من المجتمع والأفراد عامة سلسلة من التغييرات.. وضمن تلك التغييرات قبول المخاطر كجزء من النمو وصورة أصلية من الجنس البشري واحتمالاته.
وقد بدأنا في تخطي كثير من تلك الحواجز الثقافية والنفسية، مثلا تمثل الهندسة الوراثية وتكنولوجيا النانو نقطة تحول في التطور الثقافي الإنساني وهما يمثلان السمة الرئيسية لعصر الصناعة الكلية التي يستطيع بها الجنس البشري التحكم والتوجيه والمساعدة في تطوير مناطق لم يكن ليستطيع الوصول لها فيزيائيا ولا يمكن سبر غورها.
ويجد الناس تلك العلوم الجديدة غير مستقرة لأنهم يدركون أننا عندما نقوم بتجارب ومعالجات في مستوى الجينات وما دون الذرة فإننا نعمل خارج حدودنا وسيطرتنا (تختلف مسألة من يسيطر على تلك المناطق حسب أيدولوجية وقناعات الفرد.. ويختار الناس الآلية أو الطبيعة أو ما يميلون إليه).
وقد كررت مرارا أن الدخول في هذا العصر القادم لن يكون مقيدا بالتكنولوجيا.. والعوائق الجوهرية الوحيدة المحتملة لتحقيق التطور والنمو الإنساني المطلق تتصل بالثقافة والأفراد الذين يحملونها.
|
|
|
|
|