| تراث الجزيرة
كثيرا ما نسمع ونقرأ مما يكتب عن الشعر المسمى)بالشعر الشعبي( وكثيرون هم الذين يحطون من قيمته بل ويستخفون به ويهزؤون ، وقد كُتب عنه في بعض الجرائد والمجلات الادبية ذات المكانة المرموقة وسمي )بالغثاء( الشعبي، مما حدا بي الى كتابة هذا المقال، ورغم ان تخصصي اللغة العربية، وانا من ألد اعداء مناصري العامية المتهجمين على الفصحى وما اكثرهم في عصرنا لكن الحق احق ان يتبع، فلا يظنن احد انني متحيز لفئة او متحرف للِمراء، فالنقد غير النزيه لا يقرّه عقل ولا دين.. فالشعر الشعبي، كثير من الفاظه بالفصحى، واكثر قصائده لكثير من الشعراء القدماء والمعاصرين تعج بالصور البيانية والاساليب البلاغية من المجاز والاستعارات والكناية والتشبيهات البليغة، يعرف ذلك من له حاسة بيانية ادبية ومن له بصر بعلم البلاغة، فضلا عما هو تراث وحماس وطني لا يستهان به، صحيح انه في كثير من المجلات في بلدان كثيرة ممن تنشر قصائد لهم من المتشاعرين لا الشعراء، مما يصح ان يطلق على شعرهم )بالغثاء(، ولكنه غير صحيح التعميم لكل الشعر الشعبي لان مثل هؤلاء المتشاعرين طلاب شهرة وبُغاة سُمعة، ولأمر ما جعل كثير من هؤلاء لانفسهم ازياء والقاباً وعناوين بارزة تميزوا في الناس بها، كأن تكون اشعارهم الغثة بابا من التطرف او التحرّف، كأن بعض آلاته في ثيابهم اللامعة ولصورهم الملمعة لافي دواوينهم واشعارهم، فيكون التعظيم والتوقير لثوب الشاعر وصورته وامثال هؤلاء المتشاعرين ، وكذلك نمط اخر من الفنانين المغنين ممن اطلق عليهم هذا اللقب بغير حق الذين )تكدست( وتورّمت بعناوينهم كثير من الجرائد والمجلات في اكثر البلدان والقنوات فقد جعلت الصحافة لهم مكانا طبيعيا، فكان الواحد من هؤلاء هو صوت الحوادث سائلا ومجيبا، ثم يليه الشويعر والكويتب، والشاعر العظيم والفنان المبدع اصالة فوق هؤلاء وقبلهم جميعا فيكون وراءهم وبعدهم جميعا، لذلك كان من الحتم على كل شاعر او كاتب اومغنٍ ان يكون في عمله: أساسه الشخصية الناصعة وحسه الواجب المحترم، أن تكون أخلاقه دائما تظهر في عمله لا ان تظهر اخلاقه في التافه من عمله وقصيدته او مقاله او اغنيته المبتذلة، واظنه لا يخالفني الرأي احد: ان من بعض هؤلاء من يطلب الحقيقة ومنهم من يطلب الالفاظ، وأعطي لذلك مثلا مطابقا كما قيل: )لا يشك احد ان منهم اي الشعراء والفنانون كأسلاك الكهرباء المعطلة لافيها سلب ولا ايجاب، ولو ان اكثر هؤلاء كانت فيهم كهرباء البلاغة والفصاحة والبيان والعمل الفني البناء لكهربوا الامم في اقطارها المختلفة، ولقاموا في وجه الاستعمار وأعدوا ما استطاعوا من قوة النفس( فالسلاح يحارب والشعر المؤثر البليغ شعبيا او غيره يحارب، والاغاني الوطنية الحماسية تحارب، والاخلاق العظيمة في كل من هؤلاء تحارب ايما حرب، واظنه قد اتضح للجميع ان قد اصبح كثير من الجماهير الشعبية في كثير من البلدان تحت تأثير هذه القصائد والاغاني مخبولين بسحرها الوهمي، حتى حسب كل واحد من اولئك، ان هذا الحماس الشعبي الوهمي: ارتفاع به الى القمة فمدّ باعه وقوّى امره ونوه باسمه فاستحق لقب الفنان او الشاعر او الكاتب الفذ، فالتحم بالفن والنسب الشعري العريق فانخدع به مثل هؤلاء النقاد ضيّقي الافق، فاصدروا احكامهم الخاطئة.
ولكن ماذا تصنع المادة واللقب والعناوين اليوم؟ انها تصنع اصحابها وتطعمهم، وغير مستبعد ان تطغى الحياة في ترفها وتطرّفها فتحتّل مثل هذه الاشعار المهلهلة والاغاني المرذولة المكانة المرموقة فتضرب وتترك شعراءها الحقيقيين وفنانيها المبدعين في اثوابهم الرثة كالجندي المنهزم، يحمل من هزيمته فضيحته ومن ثوبه المهلهل فضيحة اخرى، لانهم وعصرنا هذا في صراع مستمر، والغلب دائما للاقوى.
والشعر بنوعيه قديمه وحديثه لا يخلو كل منهما من الغث والسمين والجيد والرديء، بدءاً من امرىء القيس امير الشعراء وقائد لوائهم كما اطلق عليه وفي كل الاعصر الجاهلي فالاموي فالعباسي فصدر الاسلام..
وقل ما تجد شاعرا فحلا من هؤلاء الا وقد رُمي بقاصمة الظهر في شعره من الإقواء وغيره، واعتقد انه كما اجاب عنه ابو العلاء المعري، قيل له: انك لتجيء بالشيء المهجر المتفاوت المتناقض، قال: وماذاك؟ قيل له: تقول شعراً تثير به النَّقع وتخلع به القلوب مثل قولك:
اذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس او قطرت دما |
الى ان تهبط الى الحضيض فتقول:
ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت |
فقال: لكل شيء وجه وموضع، ولكل مقام مقال، فالقول الاول جد، وهذا هزل قلته في جاريتي ربابه، وانا لا أكل البيض في السوق، فربابة هذه لها عشر دجاجات وديك، وهي تجمع البيض لي وتحفظه، وهذا احسن عندها من قول:
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» يقصد قصيدة امرىء القيس
اذن فالشعر الشعبي كذلك له محاسنه ومساوئه، له قيمته ووزنه، ولا يبعد كثيرا في بلاغته ووصفه ومعانيه والفاظه عن الشعر الفصيح، البرهان على ذلك ان نأخذ مثالا واحدا من الشعر الشعبي لتحليل بيتين او ثلاثة منه لاحدى القصائد التي ابهرني مافيها من صور بيانية وترصيعات مجازية واستعارات وتشبيهات بليغة وهي لسمو الأمير خالد الفيصل:
1 من بادي الوقت وهذا طبع الايام
عذبات الايام ما تمدي لياليها |
وآمل من كرام القراء الا يسيئوا بي الظن في اختياري لهذه القصيدة، فصاحبها غني عن التعريف وهو في غنى عن الاطراء او التزلف او النفاق له لان القصيدة تعبر عن نفسها، ويدرك معانيها وبلاغتها ذوو الحاسة الفنية والسليقة الادبية ، فكل الفاظه بالفصحى، ماعدا لفظة واحدة وهي )ما تمدي( رغم ما دلت عليه من الغزارة والعمق المعنوي ففي البيت جملة حالية، اي فالحال والشأن ان هذه طبيعة الحياة كقول الشاعر:
فما يدوم سرور ما سُررتَ به
ولا يرد عليك الفائتَ الحزَنَ |
وفيه فصل فقد فصل عجز البيت عن الصدر ولم يعطفه عليه، فبينهما شبه كمال الاتصال، كأن سائلا سأله وقال: وما هو طبع الايام؟ قال: عذبات ..الخ، وفيه طباق بين الايام والليالي وهو محسّن بديعي معنوي، والفصل من اسس البلاغة واهمها:
2 حلو الليالي توارى مثل الاحلام
مجبور عنّي عجاج الوقت يخفيها |
)حلو الليالي( استعارة اصليّة تصريحية لانها جرت في الاسم، فذكر الحلاوة للايام مجاز اراد به التنعم بها والانس، وكلمة )توارى( اي تتوارى واراد به التلاشي والاختفاء، وما اعذب هذه الكلمة وادقها وحسن موقعها، ثم اعقبها بالتشبيه التمثيلي، وهو تشبيه حالة بحالة، ثم اعقبها بما هو افظع واعمق مما في البلاغة، فقد استعار للوقت ذيولا وهي العاصفة الهوجاء التي تمحو وتقتلع كل ما اتت عليه فتجعله اثرا بعد عين..
3 «اسري مع الهاجس» اراد به صاحب الهاجس وهو يعني نفسه وما تعانيه من اللوعة وقلبه الخفاق وما يتعلل به من التسلية عما مضى ، وهو مجاز حسي.
4 وهذا صدر بيت فيه مافيه من التعزية والترجيع لما غبر من ايامه، ثم جاء عجزه بالهول الهائل من الاستعارات المتداخلة، فثلاث استعارات بمجازاتها وقضها وقضيضها جاءت في نصف بيت وهي:
)وانوّخ اركاب فكري عند داعيها( فالإناخة استعارة، والركاب وله معنيان استعارة ثانية والفكر استعارة ثالثة، وقد ورد في القران الكريم الاستعارات المتداخلة مثل قوله تعالى: )فأذاقها الله لباس الجوع والخوف.. الآية( فالإذاقة استعارة، واللباس استعارة، والجوع والخوف استعارة ثالثة ، وبالطبع فان القرآن
الكريم لا يقارن بكلام البشر، لانه يعلو ولا يعلا عليه، واجراء الاستعارات يطول .
5 اما قوله «وليا صفالك زمانك عل ياظامي
اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها |
فانه يحتاج لكتابة صفحتين لاستخراج ما فيه من الصور البيان والفصل والوصل، والكناية والمجاز والاستعارة المكنية في العجز للبيت، وقد نهج قول الشاعر في الحث على اهتبال الفرص واغتنامها قبل فواتها فتذهب نفسه حسرة على ذلك..
وكل الابيات التي لم اتمكن من ذكرها تكاد تسيل حُسنا ورقة وعذوبة، وتملأ القلب روعة وبهجة، جزالة في الالفاظ وفخامة في المعاني ومتانة في التركيب وصياغة بديعة وديباجة حسنة، وهذا تحليل مجمل، وبودّي لو وجد متسع في هذه الصفحة في جريدة الجزيرة الموقرة لاستيعاب الشرح ولذكر ابيات للقدماء من الفصحاء مماثلة للشكل والمضمون لهذه القصيدة وهذا مثال واحد للشعر الشعبي، وما اكثر المبرزين فيه من قدماء ومحدثين، والله ولي التوفيق.
عبدالله التركي البكر
|
|
|
|
|