| العالم اليوم
* رام الله نائل نخلة:
كان عائداً من مدرسته ذلك اليوم ... صوب عليه جندي من بعيد وأصابه في رأسه اقتنصه برصاص حي اخترق الجزء العلوي من رأسه كما يصوب صياد على غزالة وأرداه على الارض مضرجا بدمائه. ومنذ ذلك اليوم في شهر تشرين الاول من عام 1998 وجهاد سمير ابو ربيع ابن مخيم الجلزون القريب من مدينة رام الله وسط الضفة الغربية والذي يبلغ من العمر 12 عاماً تعطلت فيه اشياء كثيرة واصيب دماغه اصابة بالغة اوقفت عقله وتراجع تفكيره وشلت اطرافه الأربعة...
زرنا جهاد في بيته. حكايته تبدأ قبل مشاهدته، تبدأ عندما تطأ قدماك ارض المخيم وتسير في ازقته الضيقة بين البيوت المتلاصقة وعلى الادراج التي تفصل بين المنازل وتغسلها او تلطخها مياه المجاري والقاذورات الملقاة هنا وهناك.
تقول والدته «انا ام لأربعة اطفال كان اكبرهم جهاد والآن هو اصغرهم اسكن في غرفة واحدة في مخيم الجلزون وزوجي مريض لا يستطيع العمل وكنت اعمل في إحدى المؤسسات فراشة لأعول أولادي حتى اصيب بشلل تام في النطق والحركة ويخضع الآن للعلاج الطبيعي ومنذ ذلك الوقت حالته الصحية في تراجع مستمر حتى انه لا يستطيع قضاء حاجته او تناول طعامه مما اضطرني الامر الى ترك عملي منذ ذلك الوقت وليس لي مصدر رزق الا الله».
جهاد ابن مخيم الجلزون واحد من مئات الاطفال الذين شوههم الاحتلال وحول طفولتهم الى عذاب ومرارة وألم بعد عمليات اقتناص او رصاص طائش لا يفرق بين طفل او عجوز او امرأة.
ففي مخيم الجلزون وحده يوجد اكثر من عشر حالات تعاني من شلل تام او اعاقة مستديمة سببتها رصالة قناص اسرائيلي يصوب بندقيته من برج المراقبة التابع للجيش الاسرائيلي من على مشارف المخيم ليراقب حركات الناس لحظة بلحظة ويداعب جنود الاحتلال برصاص الدمدم المحرم دوليا رؤوس شباب واطفال عشرة آلاف لاجىء يقطنون هذا المخيم الشاهد الصامت على قسوة الحياة ومرارة اللجوء والتشرد والضياع.
فلم يكن جهاد الاول في هذه القافلة بل سبقه كثيرون منهم هاشم احمد ادغيش 30 عاماً اصيب في رأسه بأحداث النفق وهو متزوج وله بنتان ويتحدث اصحابه عن ايام هاشم الذي كان يتمتع بجسم رياضي اما الآن فهو مصاب بشلل تام لا يقوى على الحركة الا بمساعدة آخرين، وحال الشاب احمد مصطفى عليان زيد 20 عاماً ليس بافضل والذي اصيب في الرأس ايضا وكذلك سامي صالح الزينات ومروان علاء الدين شراكه ومحمد السبع والقائمة طويلة...
جهاد الذي يتخوف الاطباء اليوم من ان يبقى طفلاً حتى اشعار آخر كلمة واحدة اقتصر عالمه اللغوي عليها فقط فهو لا ينطق غيرها وهي كلمة حرك التي اخذها من الممرضة التي تشرف على علاجه الطبيعي في مستشفى بيت جالا قضاء بيت لحم فهذه الكلمة بالنسبة له كل العالم فهي تعبر عن فرحه وألمه وجوعه وتألمه وحلمه فهي كل شيء بالنسبة له.جدته التي تجاوزت السبعين عاشت أكثر من ثلثيها لاجئة هائمة على وجهها بعد ان شردت من قريتها سلمة قضاء اللد عام 1948م تقول والدموع تقطر من عينيها «لقد كان جهاد شمعة هذا البيت بشقاوته وبراءة طفولته، لقد كان مرحا محبوباً من جميع اخوانه الجيران لطيبة قلبه ومساعدته للناس ... اما اليوم فهو لا يخرج من البيت اصبح عالمه هذه الغرفة ... لا يستطيع الحركة ولا التألم ولا الضحك فقط يبكي ويبكينا معه على حالته وما اصابه....
انه يتألم كثيرا ويثقل على والدته التي لم تذق طعم الراحة منذ عامين على اصابة ابنها البكر التي كانت تأمل ان يكون معيل اسرته بعد مرض والده ولكن اليوم هي لا تفارقه دائماً تجده غارقاً يحدق فيمن حوله بعين واحدة بعد ان فقد النظر مؤخراً في إحدى عينيه، من الصعب عليك معرفة بماذا يحلم هذا الطفل الذي سيبقى طفلاً...
انه بحاجة الى الناس ولكن الناس لا يذهبون اليه ولا يأتي الكبار ولا المسؤولون الرسميون الذين تقاطر احدهم كما تقول جدته يوم الحادث وجلس في صدر البيت محاطاً بحراس كثيرين يحملون سلاحهم الذي لم يستطع ان يرد الدمدم عن رأس حفيدي ليقدموا الوعود بالمساعدة في علاجه ومتابعة احتياجاته ولكن الى هذه اللحظة لم نشاهد شيئاً منهم خرجوا من البيت والى هذه اللحظة لم يعودوا ولن يعودوا لان جهاد ليس ابن وزير او مدير عام او مسؤول في سلطتنا!!!
محاميته نائلة عطية من رام الله تتابع قضية جهاد امام المحاكم الاسرائيلية ومن جلسة محكمة الى اخرى يتجدد الامل في ان يعوض جهاد عن اصابته بشيء يعينه على مكافحة الحياة وسداد نفقات علاجه والتخفيف عن اسرته ولكن الصياد مازال طليقا وهذه هي المعادلة الصعبة ان يبقى المجرم والقناص حرا بينما الطفل المصاب يبقى طفلا لا يكبر ولا يستطيع ان يكبر ولا تملك ام جهاد ان تأمل بان تنتظر ابنها ليكبر ويساعدها على قساوة الحياة لانه سيبقى اسير هذه الرصاصة لانه سيبقى مقيداً بهذه المداعبة لهذا الجندي الحاقد لرشاشه!!!
|
|
|
|
|