اعتاد الانسان أن يجعل من عينيه الشّاهد والحَكم على كلِّ ما يمر بمجال الرؤية منهما..، وفي قليل ما يعرض الإنسان أمورَ ما يشاهد على ميزان عقله، ويقرأ ما وراء الرؤية..
فهل ميزان العين عادل لا يجور ولا يتجاوز، لا يجحف ولا يتحيَّز؟!
إن الإنسان لو منح نفسه مساحةً حرةً في عرض كلِّ الأمور التي تمر به على ميزان تتكون معاييره من رؤية العين، وأدلة العقل، ويقظة الضمير، وحقائق الواقع الملموس والمخبوء.. لربّما وضع الإنسان نفسه في كفة المثالية تلك التي قد يموت المرء دون أن يحققها في كامل هيئتها، وتفاصيلها، ذلك لأنه سوف يخرج بنتائج تختلف عن نتائج العين.
وصور الحياة التي تمر بنا كلَّ يوم على مرأى من الواقع في قاعاتها الواسعة التي تمثل ردهات المحاكم، تعكس لنا شهادة العين في الإنسان، وحكمها.. بما يؤكد خروج النتيجة عن أبجديات العدل، والصورة الواقعية بنقيضيها كما سيرد تؤكد لنا ذلك..
"هو" شخص عانى من ضروب التجارب في الحياة ما أثقل كاهله، فضمر معاناته في سرِّه، يكابدها كي لا تصرعه، مخفياً أموره الشخصية عن الآخرين كي لا يزجَّ بأحدٍ من كان في تيار ما هو فيه سابح هماً وغماً وفقراً وعوزاً..، حتى تحول مجرى حياته إلى بؤس كآبة هذا الوضع.. ولا من يدري عنه شيئاً "فسِرُّهُ" أمرٌ خفي عنهم.. تجملاً بالابتلاء، وصبراً على القضاء، وتلك سمات المؤمنين الصابرين.، وهو لا يعاني فقط مما في سرِّه، بل لحقت معاناته "بجهره"، ذلك لأنه كي يصبر، ويتصبَّر، ولا يُظهر، يحتاج إلى جهد وصبر في جهده مما يثقل عليه "نفسياً وحسياً"، وحاله يقول ما يقوله الشاعر الشعبي: "أضحك مع اللي ضحك والهم طاويني"، أو كما تعبر جمل القول: "إيه لو أنَّ جبهتي تُقرئك ما في صحيفة داخلي".. أو "الليل يطوي صرختي ويُبدي الصبحُ كامل بسمتي"..
فهو في الواقع حزين، يضحك والهم يطويه، يدسُّ صحيفته في خفاياه دون أن يقرأها الآخرون، يصبح باسماً وهو في الليل يتأوه ويعاني..، ومع ذلك لم يتحطَّم، ولم يسقط، ولم توهن عزيمته، ولا خارت قواه، ولا فقد أمله..، يتصنَّع تجمُّلاً..، حزين السِّر، سعيد العلانية، ثري في "المكشوف" معدم في "المغطَّى"..، وبينما يظنُّ الآخرون ثراءه المادي، يكشف الواقع عدمه منه..،
ووراء كلِّ ذلك سرُّه الشخصي الذي غطَّته "سمته" فهذا الذي وسمناه ب "هو" يجيد فن التعلل والتجمل، بالصبر، والإيمان، فلا يبدو على مظهره أي مؤشر يوحي بحقيقة مخبره.
وعلى عكس "هو" تماماً شخص آخر نرمز له ب"آه" وهو شخص قد منحه الله تعالى من نعمه الظاهرة والباطنة ما حقق له الرزق، والصحة، والوضع الاجتماعي المتميز، ومع كل ذلك فإن "آه" هذا يتأفَّف لأيسر الأمور، يتأوَّه من أصغر المنغصات، شكاءً بكاءً، مدعياً الفقر والمرض، والبؤس، لا يتبسم، ولا يتودد..، نافراً، جزوعاً..،
وأمام الصورتين من واقع الحياة فإن "هو"يبدو على العكس من "آه"..، فلنفترض جدلاً أنَّ واحداً ما قابل الاثنين )هو ، وآه(، وبشهادة عينيه وحكمهما كوَّن رأيه فيهما من خلال ما يبدوان عليه "خارجياً"..، وفوِّض هذا "الواحد" مسؤولية تقييمهما واصدار الحكم عليهما بما يعكس واقعهما وما هما عليه من سعادة أو شقاء، صحة أو مرض، غنى أو فقر...، فما ترى يكون الحكم؟ أيها القارئ العزيز:
ألا تعتقد أنّ الحكم عليهما سيكون على ما هو عليه وضعهما "الظاهر" الذي رأته العين فقط؟ "فهو" ثري، معافى، وسعيد.. أما "آه" فهو على عكس ذلك..، فإذا افترضنا أنَّك في اليوم التالي لاصدار حكم "الواحد ذلك" عليهما وسماعك لذلك الحكم علمت أن أمراً بالقبض على "هو" قد صدر وأودع السجن لعدم قدرته على الوفاء بديون تراكمت عليه، وفي الوقت نفسه يداهمك خبر عن قيام "آه" بشراء وامتلاك جميع أسهم الشركة التي تعمل بها أنت فما تقول عندئذ؟! وهل تستطيع أن تصف حقيقة ردة فعلك تجاه هذين الموقفين؟! الخبرين !!
ألستَ معي في أنّ نتيجةً مثل هذه تواجه الإنسان في الواقع عندما يكون ميزان حكمه شهادة وحكم عينيه؟ دون بقية معايير ميزان الحكم في مثالية الصدق؟..
إنَّ البشر لا يتفاوتون شعوراً واحساساً إلاّ في أشكال الممارسات الناتجة عن عوامل.. غير أنهم جميعهم فطرةً ذوو احساس، ومشاعر، ووجدان.. فرحاً وألماً، .. سعادة وشقاء، معاناة في أي نوع من المعاناة.. فالإنسان "مخلوق" قادر على أن "يتجمَّل" بمثل ما هو قادر على أن "يفتعل"، "فهو" المتجمِّل، ليس "آه" المفتعِل، وكلاهما يمثِّلان وجهاً من أوجه سلوك الإنسان،.. وعلى الإنسان في موقع الحكم أن يجرد كافة أدلته كي ينجو بحكمه من اجحاف العين، وارتجالها..، ذلك لأنَّ ما يبديه الظاهرُ ليس الدليل القاطع على ما يخفيه الباطنُ.. وكلاهما يحتاجان إلى محك الواقع ليكون الحكَم والحاكم في أمرهما.
ويحتاج الإنسان إلى تنمية مهارات قراءة ما بين السطور في كتاب الإنسان المغلق ليصل إلى الجوهر، وإلى ما وراء الأكمة، ذلك لأن الطير "يرقص وهو مذبوح من الألم.."
وكما قال الشاعر:
فربما صفَّق المسرور من طرَب
وربما صفَّق المحزون من أسفٍ
وكما قال أيضاً:
كم غرَّ صبرُك وابتسامُك صاحباً
لِما رآه وفي الحشا ما لا يُرى
أمرَ الفؤادُ لسانَه وجفونَه
فكتمْنه وكفى بجسمك مخبرا
فيا أيها الإنسان: إياك أن تطلق أحكامك جزافاً وامنح الآخر فرصة الجلوس إلى طاولة "امتحانك" أولاً.