| العالم اليوم
هل يمكن تطبيق العدالة الدولية على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية؟
هذا السؤال طرح نفسه في السابق عندما عجزت محكمة العدل الدولية بلاهاي عن إدخال رادوفان كرادجيتش وراتكو ملاديتش (مجرمي الحرب الصربيين) إلى قفص الاتهام، ويعيد نفسه اليوم مع طلب محكمة العدل الدولية من سلطات بلجراد تسليمها الرئيس السابق سلوبودان ميلوزوفيتش للمثول أمامها بسبب جرائم الحرب العرقية التي أمر بتنفيذها في البوسنة وكوسوفو، واتهام السلطة الفلسطينية لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك وأعضاء حكومته، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي ارييل شارون وأعضاء حكومته، بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين كان آخرها اغراق شمال قطاع غزة بالمياه العادمة والتهديد علانية باغتيال قادة الانتفاضة والمطالبة بمحاكمتهم دولياً باعتبارهم (مجرمي حرب).
في مايو 1993م قرر مجلس الأمن الدولي تشكيل محكمة العدل الدولية في لاهاي لمحاكمة مجرمي الحرب الصرب عن أعمالهم الإجرامية التي ارتكبوها في حق الشعب البوسني المسلم بعد تصاعد عمليات الاحتجاج الدولية على هذه الجرائم التي لم تشهدها أوروبا من قبل حتى في عهد النازية..!!
ومنذ ذلك التاريخ لم تحرك المحكمة ساكناً..! وبقي جيش من القضاة والمحققين في مكاتبهم..! 52 قاضياً وعشرات المحققين لايفعلون شيئاً غير ترتيب الأوراق والملفات..!!
وبعد نحو ثلاث سنوات على تشكيلها، مثل أمام المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة مجرم الحرب الصربي دوشان تاديتش، في حين بقي قادة الاجرام سلوبودان ميلوزوفيتش جزار البلقان ورادوفان كارادجيتش زعيم مايسمى بصرب البوسنة خلال الحرب، والجنرال راتكو ملاديتش قائد قوات صرب البوسنة السابق وغيرهم من المتهمين بعيداً عن يد العدالة بالرغم من إعلان المحكمة قرار الاتهام بشأنهم ومطالبتها بضرورة القبض عليهم ومحاكمتهم.
وبالنظر إلى ما فعلته محكمة مجرمي الحرب سابقاً وإلى عمليات المماطلة والتسويف الحالية نجد ازدواجية العدالة الدولية!
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تكونت محكمة (نورمبرج) وقدم آلاف الجنود الألمان الذين شاركوا في الحرب للمحاكمة، ولاتزال آثارهم تقتفى، وكلما عثر على كهل أو عجوز اشتبه أنه ممن شارك في الحرب الهتلرية، أودع السجن بعد محاكمة سريعة ليقضي حتفه بين جدران الزنزانة دون ان تسقط الدعوى لطول العهد، وقد مضى على نهاية الحرب أكثر من خمسين سنة، ولم يفلت من هذه المحكمة إلا القليلون، وكانت المخابرات الغربية والموساد تلجأ إلى خطف المطلوبين ومطاردتهم، حيث خطفت الموساد الجنرال النازي ايخمان وتم إعدامه في إسرائيل، ومازال الخطف والمطاردة قائمين حتى يومنا هذا.
وألقي القبض علي سيدة عربية تعيش في النرويج مع زوجها وأولادها بتهمة مشاركتها في اختطاف طائرة قبل 30 عاماً وحكم عليها بالسجن اثني عشر عاماً.
يستحق كل مجرمي الحرب الصرب أن تلاحقهم كل الأجهزة القضائية في كل بقاع الأرض، وأن تقتص منهم كل المؤسسات العقابية الدولية في كل مكان، وأن تلحق العقاب بمن يؤويهم ويتستر عليهم، أو يساعدهم على التخفي أو الهرب.
لكن ألا يستحق ايهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وارئيل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي وكل قادة إسرائيل الذين ارتكزوا على اعتماد قانون (الحق المطلق) الذي يضع الصهيونية في جهة أعلى من بقية البشر، معاملة دولية مماثلة، باعتبارهم مجرمي حرب؟
فخلال ستة أشهر من عمر انتفاضة الأقصي المباركة قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من (500) فلسطيني أكثر من نصفهم من الأطفال، وجرح (25) ألف آخرين بأوامر من مجرم الحرب باراك، وتم تدمير البنية التحتية للأراضي الفلسطينية التي بناها الفلسطينيون في سبع سنوات، ولمهارته في قتل الفلسطينيين يطلق الإسرائيليون على باراك لقب (رامبو اسرائيل)، حيث اشتهر بأنه خطط وأشرف على اغتيال خليل الوزير (أبوجهاد) في العاصمة التونسية في ابريل 1988م، وهو الذي اشترك في قتل ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت متنكراً بملابس امرأة، وهم أبويوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر في ابريل 1973م، وقال مفتخراً بعد هذه الجريمة واعترافه بقتل كمال ناصر بأنه «اقترب منه حتي رأى بياض عينيه وافرغ المسدس في رأسه».
وشارون الذي قادته نفسه المدججة بالحقد والكراهية العمياء للعرب إلى تسطير بطولات على المدنيين العزل في فلسطين، وعمال مصنع أبي زعبل في حلوان، والتلاميذ الأطفال في مدارس بحر البقر في مصر، والمزارعين في الأغوار بالأردن، والنساء والشيوخ والأطفال في صبرا وشاتيلا في لبنان، والمسافرين على الطائرة الليبية في سيناء، حيث يعتبر شارون ان العربي الأمثل عنده هو العربي الميت، والناس خلقوا جميعاً لخدمة بني صهيون.
وقد ضبط شارون متلبساً بالجرم المشهود في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في لبنان في صيف عام 1982م حين أشرف بنفسه على واحدة من أسوأ المجازر البشرية في القرن العشرين طبقاً لما أثبتته حتى التحقيقات الإسرائيلية.
إن باراك وشارون وموفاز يمثلون الوجه الأول لمجرمي الحرب ويجب على محكمة العدل الدولية محاكمتهم، والثلاثة يقابلهم ميلوزوفيتش كرادتش وملاديتش في الجهة الأخرى.
فشارون أدين قضائياً من قبل محكمة إسرائيلية رغم كل محاولات تخفيف التهمة وتحويلها إلى مجرد العلم بحدوث المجزرة دون التدخل لمنعها، وإدانته أمام القضاء المحلي الإسرائيلي تجعل من السهل علي من يلاحقون مجرمي الصرب لتقديمهم إلى محكمة لاهاي أن يطالبوا إسرائيل بتسليمه للمثول أمام محكمة دولية لمجرمي الحرب، وباراك ليس أقل إجراماً من جزار صبرا وشاتيلا، وليس أقل استحقاقاً للمثول أمام محكمة دولية لمجرمي الحرب.
الذين قتلوا علي يد باراك وشارون وموفاز ليسوا بشراً من رتبة دنيا، ولا هم كائنات قادمة من المجهول، ولا هم كانوا في مخيماتهم البائسة يهددون السلم والأمن الدوليين اللذين ترعاهما وتسهر عليهما واشنطن وفقاً لمعاييرها الخاصة جداً.
من ذبحوا في مخيمات صبرا وشاتيلا وغزة والضفة الغربية هم ضحايا انسحاق القيم تحت أحذية الأقوياء، وهم ضحايا وفقاً لكل المعايير الدولية، والقاتلان الآن طليقا السراح ويستعدان لانتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
في البوسنة والهرسك مجزرة وجزار وضحايا أبرياء، وعدالة دولية تقول انها تسعى للقصاص من الجزار لصالح الضحية.
وفي فلسطين مجزرة وجزار وضحايا أبرياء، لكن العدالة الدولية المعصوبة العينين مشغولة بالبحث عن القاتل لتسليمه حصة في جائزة نوبل للسلام إن لم تكن كل الجائزة.
في البوسنة مئات المقابر الجماعية التي تحوي آلافاً من جثث الأطفال والنساء والمسنين المسلمين الذين ساقهم الصرب زمراً حيث قتلوا بشكل جماعي وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم.
وفي فلسطين مئات المقابر أيضاً التي تحوي شهداء الشعب الفلسطيني من الأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلهم مجرمو الحرب الإسرائيليون على مدى قرن كامل.
في البوسنة أشرف مجرمو الحرب من القادة الصرب على حملة (التطهير العرقي) ضد المسلمين في (المناطق الآمنة) التي فرضتها الأمم المتحدة، حيث تم اعدام الآلاف من النساء والأطفال بقطع رؤوسهم وشفاههم وأنوفهم وقلع عيونهم.
وفي فلسطين أشرفت الحكومة الإسرائيلية مجتمعة وبأفرادها ابتداء من رئيس الحكومة علي حملة تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني في (أراضي السلطة)، حيث قامت الدبابات والطائرات والسفن الإسرائيلية بقصف الفلسطينيين بجميع أنواع الأسلحة حتى المحرمة دولياً كالذخائر التي تحتوي على اليورانيوم المستنفد، وقيام فرق الموت الإسرائيلية بالتسلل إلى أراضي السلطة وقتل كوادر ونشطاء الانتفاضة، والتمثيل بجثث الشهداء كما حدث مع الشهيد شاكر حسونة في مدينة الخليل.
إن العدالة قيمة لاتقبل التجزئة، والظلم يحدث عندما يظن البعض أن بوسعهم تقسيم العدالة، فمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين لاتقل أهمية عن محاكمة مجرمي الحرب الصرب، ولايمكن أن يكون إفلاتهم من العقاب ثمناً لهذا السلام الهزيل، فمثل هذا السلام لايصمد إلا قليلاً، وسيكون الطريق مفتوحاً أمام كل جرائم الإبادة والقتل والتعذيب.
لذلك ينبغي الإصرار على محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين وفي مقدمتهم باراك وشارون وموفاز، حتى تصبح هذه المحاكمة علامة فارقة على دخول العالم إلى عصر جديد، ونظام دولي أكثر حرصاً على القيم الإنسانية، وأكثر تمسكاً بالقانون ومبادئ العدالة.
|
|
|
|
|