| الثقافية
* لم تزد حياة طرفة بن العبد عن ست وعشرين عاماً، ومقتله يعتبر اسطورة ما زال يتناقلها الرواة ما بين مصدق ومكذب. ارسله عمرو بن هند ملك الحيرة الى والي البحرين بخطاب توصية.. حمل كفنه طرفة داخل ذلك الكتاب المختوم، يعتز بنفسه كشاعر مبدع وعربي عريق ومن قبيلة صريح النسب فيها.. فكيف يجرؤ اي من كان على اهانته فما بالك بالقضاء عليه.. والثقة الزائدة بالنفس كثيرا ما تورد صاحبها المهالك.. جاء طرفة البحرين.. قطعت يداه ودفن حياً.. وهذا قليل من كثير فهناك اقصوصات واساطير حول بشاعة مقتله.. لماذا كل ذلك وهو شاعر الرفعة والكبرياء.. لقد نقل الوشاة وهم من اقرب الناس اليه بل هو زوج اخته المقرب.. نقل ذلك المفرغ من المواهب، وشاية الى عمرو بن هند تعني ان طرفة الشاب المعتز بذاته وشاعريته قد هجاه بأقذع القول.. اسرها عمرو بن كلثوم.. دون تروٍّ ودون تحقق من الامر.. وهذا قدر المبدعين يحيط بهم الحساد والوشاة.. هذه معادلة الحياة التي تمنحهم العبقرية وتأخذ منهم الامن والسكينة.. تقول القصة ان الملك قرب اليه طرفة وخاله المتلمس واجزل لهما العطاء ثم ارسلهما الى البحرين.. وقديماً كانت البحرين تعني المنطقة التي تضم الساحل الشرقي من المملكة في الجزيرة العربية، وتمتد من البصرة في ارض العراق الى البحرين اليوم التي هي جزيرة دلمون في بحر الخليج العربي.. كان المتلمس شاعراً فحلاً وابن اخته طرفة شب يقول الشعر القوي الجزل.. قصائده ملأت البيداء وتناقلها الرواة.. فهي تتفاوت في مزاياها، وابياتها تتسم بالخفة والجمال وسحر البيان، شعر مليء بالصور الادبية، كلمات مألوفة في ذلك الامتداد السرمدي من الرمال والرياح.. جمل غير مألوفة الاستخدام يطرز بها قصائده.. يخاطب راحلته، جملهُ الاعز.. يطير به في ليالي الصحراء.. يصحبه في رحلاته وتنقلاته الكثيرة فهي قريحة فياضة بالشعر، وجمل قوي متين البنيان فكيف لا يتعلق قلبه بهذا المخلوق الوادع، الشامخ الصامت.. يصفه بمعلقته الخالدة.. بداية يخاطب محبوبته خولة..
لخولة اطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
اي شاعر طوال مسيرة الشعر في التاريخ تنبه الى مثل تلك الصفة للاطلال.. وتتوالى القوافي بموسيقى عذبة، تتغير النغمات بشكل مفاجئ وبأوزان قوية كانت نتاج عصرها، والعاطفة فيها تتمرد على تقليدية العشق.. لم يكتب طرفة قصائده لتدخل السرور على قلوب مستمعيه، في مدح او هجاء او سرد، بل كانت دفعات انفعالية تخرج طازجة شهية من الاعماق الى قلوب المستمعين، وتطير في سراب الصحراء مثل الاساطير ، كما العشق، تتسم قصائده بحيوية ولهجة لاذعة، او ثرثرة طليقة، التحول المذهل في لهجته الشعرية من الغزل الرقيق، من النسائيات الى سياسة عصره، الى الحياة الاجتماعية، تتمرد على المألوف، ويقارع القبيلة شجاعة بشجاعة، حر الرأي، واضح القريض، وهو الطفل الذي لا يحق له رفع هامته امام فطاحل القوم، ورؤساء القبيل.. لم يعتد الجهابذة هذه الوقفات الابية من شاعر شاب يجب ان يطأطئ راسه خجلا واحتراما. ولكنه طرفة.. ذلك الشهاب الذي ابحر ملتهباً في سماءالفيافي، يقدم لمحات ساحرة عن لحظات سعيدة، تجارب خاصة جداً، فيض عاطفة، تتهادى بكلمات جياشة تتألق بسحر غامض، تهاويم رائعة، وتعلق كلماته بماء الذهب. .. سبقه في ذلك كبار الشعراء وها هو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره يزاحم الاستار، ليعلق كلماته على حرير الوقت والزمن الى يومنا الفائض في بريق اللآلىء، يومض حتى الزمن القادم.. يقول التاريخ، في عودة الى مأساة الشباب الترق.. منتصف الطريق بين الحياة والفناء، توجس المتلمس خيفة من الكتاب المختوم الذي حمله له ابن كلثوم، فاقترب من غلام كان سائرا قربهما. وطلب منه ان يقرأ الرسالة.. فقرأها واذا بها امر من عمرو بن كثلوم الى عامله في البحرين بقتل المتلمس حين حضوره.. فرمى المتلمس رسالته في النهر وطلب من طرفة ان يفعل فعله؟.. فهل حقا تسير الامور كما تقول المتون.. وهل غيرة المتلمس السابقة من ابن اخته الشاعر الصغير.. حينما اشار الى لسانه ورأسه قائلا حكمة الزمان: ويل لهذا.. من هذا!! الغيرة وحقد الآخرين اهدرا دم الشاعر العبقري الذي عاش يتيما.. بعد موت والده ورؤيته دموع امه المغلوبة على امرها واخوة زوجها يأكلون ارث ابنائها الاطفال.. ويقف الصبي طرفة في وجه القوم مطالباً بحقه وحق امه وردة.. واسرها القوم في قلوبهم.. وهكذا كثر المسِروُّن في قلوبهم ضده..
ما تنظرون بحق وردة في صغر البنون ورهط وردة غيب
قد يبعث الامر العظيم صغيره حتى تظل له الدماء تصبب
وكان لطرفة الى جانب عمق لغته الشعرية، فلسفة غريبة في ذلك الزمان.. لخصها في ثلاثة اشياء. ان يصب وان يهب وان يحب! فالخمرة والاغاثة ونجدة المظلوم وعشق الحسناوات هي كل حياته وبذلك بدد الكثير من امواله، وكسب الكثير، كان كريماً شهماً يحب الحياة، وكعادة الشعراء العظماء ظل طرفة مليئا بالاماني والرغاب، يحمله الهوى الى سدة النجوم ويهوي به الى عمق الاحزان.. يخاطب اخته ساعة الالم:
فان مت فانعيني بما انا اهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
وردت اخته(الخرنق) عندما سمعت بموته ابياتاً اجمل ما قيل في الرثاء:
فجعنا به لما انتظرنا إيابه على خير حين، لا وليدا ولا قحماً
|
|
|
|
|