| الثقافية
* كتب علي سعد القحطاني:
ما يزال الدكتور منصور الحازمي طيلة الأشهر الثلاثة الماضية يعيش في عرس رائع ولا يزال يتلقى تبريكات الزملاء والمهنئين والمباركين بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في حقل الأدب وقال في مستهل قراءة ورقته «وقفات في مسيرة» التي ألقاها في اثنينية الشيخ عثمان الصالح «لقد قلت مرارا ان فوزي بجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي لهذا العام، انما هو فوز لهذا الوطن الغالي الذي ننتمي اليه جميعا وهو فوز لكل الإخوة والزملاء والأبناء وان بلادنا تغص ولله الحمد بالكفاءات والمواهب في شتى الحقول. وكان حديث الدكتور في تلك الليلة عن أبرز المحطات التي توقف عندها في مسيرته الطويلة.
الإحساس بالزمن
ولعل الإحساس بالزمن هو ما أغرى المحاضر في تلك الليلة بالهروب الى الزمن القديم حيث الطفولة الغضة المتفتحة وحيث الذكريات ولاحظ الدكتور الحازمي ان مثل هذا النوع من الكتابات في العالم العربي في السنوات الأخيرة كالسيرة الذاتية والمذكرات واليوميات، يكتبها الأدباء والصحفيون والزعماء، وكثير من الناس من كافة
الطبقات والاتجاهات، ولم تكن مثل هذه الكتابات الذاتية معروفة في التراث العربي القديم على هذا النحو الواسع، ويبدو اننا قد تأثرنا في هذا الاتجاه ايضا بالغرب الذي يعتبر الاعتراف او البوح الذاتي جزءا من الثقافة والعقيدة.
الدحلة
وكان الدكتور منصور الحازمي قد بدأ بالكتابة عن مرحلة الطفولة في تلك المقالة الطويلة التي نشرتها صحيفة الرياض سنة 1399ه 1979م بعنوان «الدحلة» وكانت في الأصل عرضا نقديا لكتاب الاستاذ عاتق بن غيث البلادي «الأدب الشعبي في الحجاز» الذي صدر حديثا في ذلك الوقت ولكنه كما يقول المحاضر نسي كتاب البلادي واستغرق دون ان يشعر في ذكرياته لأن البلادي ذكّره بالطفولة والحياة الشعبية القديمة.
دحلة حرب
شرد بالذاكرة في تلك الليلة الدكتور الحازمي وأخذ يقص عليهم صفحات من طفولته الماضية وقال: كنا أطفالا لا نعي ما حولنا في «دحلة حرب» عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وكانت هذه الحارة مغمورة مجهولة في الطرف الغربي من مكة المكرمة وهنا يتساءل الحازمي عن سر تسمية تلك الحارة بالدحلة وقال: لا أدري من أطلق عليها «دحلة» وبحث المحاضر عن أصل التسمية في المعجمات التي تشير إلى ان معناها حفرة في الأرض ضيقة الأعلى واسعة والأسفل. و«الدحلاء» البئر الضيقة الرأس الواسعة الجوانب ولعل في شكلها ما أوحى باسمها وكان المعنى معروفا للبدوي سليقة دون الرجوع الى المعجمات فهي كالحفرة او كالبئر ، محاطة بسلسلة من الجبال من أطراف ثلاثة أما نسبتها الى «حرب» فلا تحتاج الى اجتهاد، ذلك لأن كثيرا من حارات مكة وشعابها كانت تنسب الى الشعوب او الأجناس والقبائل التي استقرت فيها، فهناك حارة «العتيبية» وهناك حارة «التكارنة» وهناك زقاق «التجارية» وهناك «الهنداوية» وهناك حارة «الشامية» الخ...
كانت مكة خليطا من مجتمعات صغيرة ذات أجناس شتى ولغات مختلفة . قال تعالى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» والبدو لا يطيقون العيش في حواري مكة الداخلية ويفضلون الاقامة في أطرافها، لعلهم يحنّون دوما الى الصحراء، ولم تنقطع بينهم وبينها صالات الرحم والقربى ولم تغيّر شيئا كثيرا من لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
شخصيات الدحلة
وتحدث المحاضر عن البؤس الذي كانت تعيشه تلك الدحلة الفقيرة فبيوتها لا تعدو العشش والصنادق وسكانها من صغار العمّال والجمّالة. ومن الشخصيات الطريفة التي عاصرها المحاضر في طفولته والتي كانت تسكن الدحلة هي:
1 سائق البريد الذي يعود من سفراته الطويلة بالجديد من الأخبار وغرائب الحكايات ومن العجب ان الاستاذ عبد العزيز الربيع رحمه الله أشار الى تلك الشخصية في كتابه «ذكريات طفل وديع».
2 شيخ السقّاية الذي يبسط نفوذه على جميع السقاة بالدحلة والحواري المجاورة.
3 مغسّل الأموات وهو رجل نشيط يشع النور من وجهه الأبيض على جبينه سجدة كبيرة ويهابه الجميع، وكان يجمع مع ذلك بين غسيل الأموات والطبخ وقد اشتهر بطهي السليق على نحو خاص.
4 سواق ابن سليمان وهو شاب أسمر اللون رشيق القوام، متألق في ملبسه، تفوح العطور من ثيابه كلما مشى مختالاً في الحارة.
5 أم علي وهي جدة المحاضر، امرأة من بادية حجر قرب رابغ لم تفقدها الإقامة في مكة طباعها وشخصيتها وللحنين الى ديارها.
ويقول المحاضر ان الدحلة القديمة تعيش على الجمّالة وقوافل الحجاج، ويعمل بعض شبابها في قصور ابن سليمان المجاورة لهم.
كانت الكهرباء تنبعث من وراء تلك النوافذ الباذخة وبيوت الدحلة تضيئها الفوانيس الصفراء وتغرق أزقتها في ظلام دامس.
لقد كان الليل مخيفا وأشباحه تقض مضاجع الأطفال، الدبخرة وهول الليل والسعلاة ألف الجن سكان الدحلة وألفوهم، ولكن حارتنا أصابها بعض التحول في أواخر الحرب العالمية الثانية، حينما بدأت تدب السيارات في أنحائها وبدأ المذياع و«البيك آب» «الشنط» تنشر الأغاني العربية خفية في بعض البيوت.
ريع الرسّان
ولقد شجعت «الدحلة» المحاضر على التفكير في كتابة حلقة ثانية يسميها الريع او «ريع الرسّان» وهو الحي الذي انتقلت عائلة الدكتور منصور الحازمي في ذلك الزمان ولكنه لم يكتب عنها سوى كلمات قليلة، لا يزال محتفظا بها في مخطوطة يقول فيها «ليس الاختلاف في الريّع» بل في كلمة «الرسّان» كثير من الناس ينطقونها «الرسّام» وأظنهم مخطئون. لأنني لم أر ولم أسمع ولم اقرأ ان ذلك الحي من أحياء مكة قد أنجب في تاريخه القديم او الحديث «رسّامين» ولكن من المحتمل والأقرب الى الواقع والمعقول انه اشتهر في الماضي ب «رسّان» ماهر او بمجموعة من الرسّانين الذين يصنعون أرسان الاباعر.
وقد شهدت في أوائل السبعينات الهجرية من القرن الماضي واحدا منهم حدادا، لا بد انه من بقايا تلك الفصيلة المنقرضة من الحدّادين.
واذا كان «الريّع» قد حرم من الفنانين، بالمعنى الضيق لهذه الكلمة فهو لم يحرم من أرباب الحرف الدقيقة الذين لا تقل مهارتهم عن أولئك المتنفّجين الذين يعملون بالريشة والأزميل و«الريّع» يخص بأولئك الحرفيين: السمكري والنجار والصائغ والسّجي والمنجّد والصبّاغ والحذّاء .
وقد كانت لصناعاتهم تقاليد مرعية وأسرار خاصة لا بد أنهم توارثوها أبا عن جد وهم مع محافظتهم على أسرار الصنعة وتقاليدها الا انهم كانوا على استعداد لتطويع انتاجهم بما يتماشى مع ظروف البيئة والحالة الاقتصادية وتطور الذوق.
ولا يخلو «الريع» من الصناعات الدقيقة التي تحتاج الى مهارة خاصة واحساس وذوق ومن هذه الصناعات نحت المسابح ونقش النوافذ الخشبية والرواشن، وصياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
واتم الدكتور منصور الحازمي دراسته في «ريع المرسّان» المرحلة الابتدائية في المدرسة الخالدية بجرول وانتقل بعدها الى المعهد العلمي السعودي في قمة جبل هندي قبل انحداره مع مدرسة تحضير البعثات الى القشاشية بجوار المسعى القديمة وباب السلام.
الطفولة في السير الذاتية
ان ذكريات الطفولة لا تنسى، وفيها الكثير من الصدق والعفوية والجوانب الانسانية، بدليل ان قسم الطفولة في السير الذاتية هو أهمها وأجملها وضرب في ذلك مثلا في أيام «طه حسين» و«أيامي» لأحمد السباعي وكما نرى ايضا في السير الذاتية التي كتبها كل من عزيز ضياء وعبد الفتاح أبو مدين ومنصور الخريجي.
ويفكر الدكتور منصور الحازمي بجدية في فكرة الشروع في الكتابة عن جميع الأحياء التي قطنها أثناء الدراسة فيكتب مثلا عن «الدقي» في القاهرة، حينما كان طالبا في كلية الآداب جامعة القاهرة و«البطحاء» في الرياض، حين انتقل اليها معيدا بجامعة الملك سعود و«سويس كوبح» بلندن اثناء دراستي بجامعة لندن، ولا يزال المشروع في ذهبي فهل يتحقق؟ الله أعلم ولكن الطفولة تظل كما ذكرت هي الأساس او حجر الزاوية في جمع الذكريات، وقد كانت طفولة جيل الدكتور الحازمي صعبة قاسية متقشفة ولكنه بالرغم من ذلك فانه ما يزال يحنّ اليها.
ثم تحدث المحاضر عن قصته العاطفية التي حدثت في أيام شبابه في شارع المساحة الجميل بحي الدقي ومن أجلها نشد قصيدته الأولى التي كانت بعنوان «خفقات قلب».
كما أخذ الدكتور الحازمي يسرد في تلك الإثنينية رحلته العلمية نحو الخارج الذي رأى في الحضارة الغربية الجانب الخير والجانب الشرير في آن واحد وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة وقد صور هذه الازدواجية في قصيدة سماها «تحت الأرض» ويقصد بها القطارات الأرضية بمدينة لندن منها هذا المقطع
هنا تحت أرض المدينة
تصحو الحياة
وتبعث من كهفها كالطفولة
وجها ضحوكاً
وروحاً نبيلة
وبسمة حبّ تزين الشفاه الجميلة
وتبعث طوداً
ضجيجا يمزق قلب السكون
بروقا تخطّف منا العيون
وينعق صوت وتعصف ريح
وترجف أذرعة في ذهول
فيأتي قطار
ويمضي قطار
وتمضي الحياة
|
|
|
|
|