العالم الجليل والأديب البارع العلامة بدر الدين عثمان بن سند بن محمد بن أحمد بن راشد بن حمد بن ناصر بن راشد الرباعي العنزي الوائلي.
هاجر والده سند بن محمد من بلدة حريملاء بنجد إثر أحداث وقعت في بلدته عام 1168ه إلى جزيرة فيلكة بالكويت لطلب الرزق، فولد له بها المترجَم له عام 1180ه.
وانتقلت اسرته بعد ذلك إلى الأحساء وهو في سن الصغر، فأخذ عن علمائها مثل الشيخ محمد بن عبدالله بن فيروز الاحسائي، وسيبويه عصره الشيخ عبدالله البيوشي الكردي الذي اختص به.
وممن زامله في الطلب على الشيخ البيتوشي وغيره الشيخ عبدالله بن عثمان بن جامع، والشيخ ناصر بن سليمان بن سحيم وغيرهما كثير.
وفي عام 1204ه انتقل للبصرة للأخذ من علمائها، فأخذ عن الشيخ محمد بن علي بن سلوم في علوم الهيئة والفلك، والشيخ محمد بن فيروز في الفقه، ثم الشيخ إبراهيم بن جديد، والشيخ عبدالله بن شارخ، وأخذ عن العالمين المشهورين علي بن محمد السويدي وزين العابدين المدني «جمل الليل» المحدث حين مرَّا بالبصرة.
ولما حج وجاور بمكة والمدينة المنورة مدة أخذ عن علماء الحرمين، ومن يرد إلى الديار المقدسة من العلماء.
ودخل عام 1214ه بغداد حيث أكمل أخذه عن الشيخ السويدي، وأخذ عن الشيخ ابن سميكة والشيخ احمد الحافظ والشيخ علي بن حسين بن كثير في علوم الحديث، والشيخ ابي الحسن السندي، والشيخ عبدالقادر بن عبيدالله بن صبغة الله الحيدري، وأخيه الشيخ عبدالله، والشيخ محمد أسعد الحيدري، والشيخ محمد أمين، والشيخ احمد الحياني قاضي بغداد، والشيخ خالد النقشبندي، ثم صار يتردد على بغداد بين الحين والحين للاستفادة من علمائها.
وارتحل بعد ذلك إلى الشام فأخذ عن علمائها.
وفي عام 1232ه تمكن أحد الموظفين البارزين في بغداد والذي كان من قبل مملوكاً من التمرد على والي بغداد وعزله، ومن ثم تولى ولاية بغداد والبصرة، وما كان هذا الموظف إلا زميله في الطلب على الشيخ السويدي العالم داود افندي.
وأحدث داود باشا نقلة حضارية في العراق بما ابتدع من تحديث لآلات الحرب ومعداته، ومن تطوير لشتى المرافق، حتى انه انشأ اول مطبعة باللغة العربية، وكان أول ما نشره كتاب «دوحة الوزراء» للكركوكي عام 1246ه.
وفي عام 1334ه وعد ابن سند داود باشا ان يؤلف له تاريخا، إلا ان اقامة ابن سند في البصرة عطلت اخراج مثل هذا الكتاب.
ثم ان الوجيه الكبير أحمد بن رزق طلب منه زيارة بلد الزبارة البلد المعروف في قطر، فاستأذن من الوالي داود فأذن له في ذلك، فذهب فجعله الصدر المقدم في بلده، واحتفى به احتفاء بالغاً، واعتبر قدومه إليه زينة لبلاده، وغنيمة في بساطه، وألف له الشيخ عثمان كتابه المشهور «سبائك العسجد في أخبار أحمد بن رزق الأسعد» ورغب منه دوام البقاء عنده، ولكن الزبارة تضيق عن معلوماته، وتصغر في وجه نشاطه العلمي، فعاد الشيخ عثمان إلى بغداد.
وفي عام 1241ه ارسل داود باشا إلى ابن سند يطلب منه القدوم إلى بغداد ويستعجله اتمام هذا التاريخ في الثاني عشر من ذي الحجة عام 1241ه، وانزله في دار خاصة له، وشرع ابن سند في الكتاب في الحادي والعشرين من ذلك الشهر، وأرخها بقوله «داود يُمتثل أمره».
وأرخ لشروعه في تأليف تاريخه بنفس اسم كتابه «مطالع السعود بطيب اخبار الوالي داود»، وأتم الشيخ عثمان كتابه في أوائل عام 1242ه.
مكانته العلمية:
تصف المراجع الشيخ ابن سند بأنه الإمام العلامة، والرُّحلة الفهامة صاحب البلاغة، حسان زمانه ونادرة أوانه ونابغة البلغاء، علامة الزمان وفريد الدهر والأوان، مؤرخ أديب من نوابغ المتأخرين.
كان مشائخ ابن سند منذ حداثته يتفرسون فيه العلم والنجابة، ولذلك لما أجازه شيخه السيد زين العابدين جمل الليل المدني حرر له هذا البيت على طرة الإجازة:
أنا الدخيل إذا عُدت أصولُ علا
فكيف أذكرُ إسنادي لدى ابن سند
وحين لمس شيخه الشيخ النحوي عبدالله البيتوشي الكردي نبوغه المبكر احتفل به، وأقرأه دواوين العرب، وأشركه معه في تأليف شرح لهما على «الشافية» لابن الحاجب في علمي الصرف والخط، ورأى فيه خليفة له في هذا الفن الذي قل مرتادوه وندر طالبوه.
وحين ذكره الشرواني في حديقة الأفراح قال: «القول فيه انه طرفة الراغب وبغية المستفيد الطالب وجامع سور البيان ومفسر آياتها بألطف تبيان أفضل من أعرب من فنون لسان العرب، وهو إذا نظم أعجب، وإذا نثر أطرب».
قال محمود شكري الألوسي: «إن هذا الفاضل ممن شاع ذكره وملأ الأسماع مدحه وشكره، له اليد الطولى في العلوم العربية والفنون الأدبية، نظم غالب المتون من سائر الفنون، وقد اشتهرت في هذه الديار، وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار».
ويعد ابن سند من نوادر أعلام العراق في القرن الثالث عشر، جامع بين العلم والفقه في الدين، متفوق في فنون الشعر والنثر حاد الذكاء مشبوبه، قوي الحافظة خصب القريحة سيال القلم، واسع الثقافة، له بصر بالعلم الرياضي والتاريخ والنقد الأدبي وولع بالتأليف في كل ما يتصل به من علم وأدب، وله طبيعة كالينبوع تتدفق بالخصب ونفس طلعة كلفة بالبحث والدرس كلفاً يدعو إلى الدهشة والاعجاب، وكان مع ذلك شاعراً مكثراً قال عنه النبهاني: «هو آخر فضلاء البصريين».
ويعد الشيخ ابن سند خاتمة النحاة المحققين المصنفين، وكان يلمس ذلك فيقول متحسراً على علم النحو في «البصرة» مدينة النحو:
قد كانت البصرة الفيحاء من قدم
مجرى لأبحر نحو تقذف الدررا
فأصبحت وهي صفراء الوشاح فما
بها نحاة سوى نزر وهم فقرا
قال الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن البسام حفظه الله عن الشيخ عثمان: «من النوابع في سرعة الحفظ وجودة الفهم وبطء النسيان، والرغبة العظيمة في العلم، والجد في تحصيله، وهذه العوامل الهامة صيرت منه مع توفيق الله تعالى آية كبرى في المحصول العلمي، وبكونه موسوعة كبرى في العلوم الشرعية والعلوم العربية والتاريخية وغيرها».
وقال أيضاً: «إن الشيخ عثمان بن سند من كبار العلماء، ونوابغ البلغاء، وفحول الشعراء، وانه موسوعة علمية في كل باب من أبواب العلم، وفي كل فن من فنون الآداب، فهو عالم عصره، وعلاَّمة مصره».