الجزء الأول
اسم الكتاب: عبد العزيز الرفاعي، صور ومواقف ، الجزء الأول من المهد الى اللحد
اسم المؤلف: أحمد سالم باعطب
الطبعة: جدة عبد المقصود محمد سعيد خوجة، الاولى عام 1416ه.
عبد العزيز الرفاعي رجل فقده الأدب والقلم، رجل عاش كريما، ورحل كريما، هو نجم من الاخلاق هوى، وبنيان خالد ذهب عموده ومرتكزه الأساسي، لكنه ظل قويا متماسكا صلبا لم يتصدع ولم يهو، وبقيت ذكراه خالدة في النفس والروح والشعور، هو رجل احبه الناس لانه اخلص لهم، وقدره الناس لأنه احترم ذواتهم واخلاقهم وطباعهم، فهو عفيف النفس ، عف اللسان، ثاقب البصر والبصيرة، دمث الطبع والطبيعة، وفي وصف حب الناس له، يقول تلميذه وصديقه وانيس روحه ونفسه، مؤلف الكتاب الذي بين يديك ملخصه وتلخيصه: (هو حب صراح قراح خال من الرياء مجلو من الغش والخداع)، وفيه يقول احد اصدقائه المتأدبين بندوته، والمنتفعين بشعره وشاعريته:
عبد العزيز الرفاعي منتهى ادبي
بعد الإله ومقصودي ومطلبي
فإن ظفرت به فالله يكلؤه
فقد ظفرت بقول العلم والأدب
وفي الندوة الرفاعية يقول مؤلف الكتاب:
نبع تدفق في الرياض سناء
ينساب سمحاً رائعاً وضاء
تتعانق الارواح فيه طروبة
وتطيب في ثغر الزمان غناء
تسري النسائم منه عاطرة الندى
تروي الليالي الخالدات عطاء
واذا كانت هذه هي مشاعر المؤلف تجاه الأديب الكبير عبد العزيز الرفاعي فلا غرو ان يكتب فيه كتابا كبيرا يقع في (291) ورقة تقريبا من القطع الكبير، وهو الذي بين يديك الآن، وقد بدأ الكتاب باهداء ادبي شيق من كاتب سطور هذا الكتاب، جاء صادقا حيا مخلصا من قلب وقالب، ومن مؤلِف ومؤلَف الى نسمات عبد العزيز الرفاعي الطاهرة رحمة الله عليه، فهذا الكتاب هو سيرته بل هو بعض مسيرته، يضعها المؤلف الفاضل بين يدي قراء هذا الكتاب ليطلعوا عليه، وليهنأ مؤلف الكتاب وليسعد، فقد اجرى الله على لسانه، وفتح على قلبه وقلمه وبيانه، ما بلّ غليل القراء، ونشر من عطر كلماته، مادلّ ويدل وسيدل ان شاء الله تعالى على سمو سيرة الاديب عبد العزيز الرفاعي، ونقاء سريرته.
وقد قدم الناشر الأديب عبد المقصود محمد سعيد خوجة للكتاب بمقدمة ادبية جامعة، تفوح منها رائحة الحب والاخلاص لفقيد الادب والفكر الرفاعي، فهي اشبه ما تكون بسيرة ذاتية دقيقة لشخص الاديب العملاق الرفاعي، حيث تصف هذه السيرة خلقه واخلاقه، جوهره وعرضه، باطنه وظاهره، ويعرف فيها الرفاعي بقوله: (الرفاعي باختصار رجل احب الله ورسوله، فأحبه الله ورسوله، اخلص للأمة والوطن لذا أصبح اسمه منقوشا على جذع الدهر، وسيبقى ما بقيت الفضيلة مرسى للافاضل) وقد ضحى الرفاعي وجاد بنفسه مخلصا راضيا في سبيل قضية كبرى وهي قضية ان يكون الكتاب توأما لرغيف الخبز، فسعى الى نشره بين شرائح المجتمع المختلفة وبأسعار زهيدة، ثم اصدر مجلة (عالم الكتب) ليتابع الادباء والعلماء والمثقفون ماجد ويجد في عالم الفكر والأدب، ويلي كلمة الناشر، مقدمة معالي الدكتور الفاضل محمد عبده يماني، ثم تمهيد رائع، وارهاص بارع بقلم مؤلف الكتاب، وفيه الاشارة الى سبب تسمية الكتاب بهذا الاسم وهو كما جاء على لسان المؤلف الموهوب: (اخترت ان اسمي هذا المؤلف ب "عبد العزيز الرفاعي - صور ومواقف" وذلك لأن الرجل الحق موقف، يفرض على الآخرين ان يقفوا امامه اكبارا واحتراما.
وأول استهلالات الكتاب الميمونة وصفت اللحظات السعيدة التي رفرفت في سماء والديه إبان مولده وقدومه ، حيث كان مولده في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك عام (1342ه) في ام لج. وهنا كان مؤلف الكتاب باحثا مدققا يجيد الحوار، ويكره الجدل حين أخذ في مبحث تسمية هذه المدينة بأم لج او أم اللج، ثم يطرق المؤلف نسب الرفاعي ويظهر له انه حسيني الاسرة، من ناحية الاب والأم، ونسبه يمتد الى الحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم اجمعين.
وحينما تجاوز عبد العزيز الرفاعي السنة الاولى من عمره انتقلت اسرته من أم لج الى الوجه ثم الليث ثم ينبع واخيرا الى جدة وفيها حدث خلاف عائلي بين ابيه وامه كانت عاقبته الطلاق، ومن هنا بدأت رحلة الشقاء والضنك والتعب وكانت أمه مثالية صبورة قاومت نصب الايام، فأخذت تعمل مع شقيقته الكبرى شيئا من الأعمال اليدوية البسيطة، ويتولى عبد العزيز الصغير بيعها في المساء، لأنه كان منتظما صباحا في مدرسته وقد كانت والدته تعينه ببعض الهللات القليلة تشجيعا له على الذهاب الى المدرسة، فكان يلهو بها لهو العقلاء الكبار لا لهو الاطفال الاصغار، فيشتري بها كتبا ليقرأها، ومن هذه الهللات القليلة بدأت رحلة عبد العزيز الرفاعي مع الكتب والمكتبات، لكن نفس هذا الطفل حنونة عطوفة، فقد عرض على امه ترك المدرسة والتفرغ لحياة العمل، خاصة ان اخته الكبرى قد تزوجت، واصبح العبء ثقيلا على والدته، غير ان هذه الأم الرؤوم كانت اشد حنانا وعطفا وصرامة منه، فرفضت اقتراحه هذا كل الرفض، واصرت على استمراره في الدراسة، فما كان منه الا الإذعان لرغبتها، اما هو فظل يفكر ويفكر في طريقة يجمع بها بين الامرين دراسته وعمله، واهتدى في النهاية الى فكرة مؤداها ان يعمل في المساء اضافة الى دراسته الصباحية، لكنه بدا له ان التوفيق بين هذين العملين امر في غاية الصعوبة، فاستقرت به الحال الى التفرغ في العمل، والاتفاق مع مدير المعهد العلمي السعودي على تأدية الامتحان على طريقة المنازل، ثم تقدم للمعهد ونجح وفاز بشهادته، وهنا انتهت مشاكل العيش عند عبد العزيز الرفاعي، ويشير الكتاب الى درجات سلم الحياة العملية التي ارتقاها الرفاعي وهن على التوالي:
- درجة سلم الحياة الاولى وهي عبارة عن بيع ملابس جاهزة حينما كان في السنة العاشرة من سني عمره الزاهر.
- الدرجة الثانية من السلم فهي محاسب وهو ما يزال في غضون السنة الثالثة عشرة من عمره.
- الدرجة الثالثة من السلم هي مدرس قبل التخرج لابناء بعض الأسر الكبيرة.
- الدرجة الرابعة من درجات السلم الذهبي الصقيل تتمثل في تعيينه مدرسا بالمدرسة العزيزية في مكة المكرمة ولاسيما بعد حصوله على شهادة المعهد العلمي السعودي عام 136ه.
- الدرجة الخامسة كان محررا بديوان مديرية المعارف.
- الدرجة السادسة عين في شرطة العاصمة.
- الدرجة السابعة عين في النيابة العامة.
- الدرجة الثامنة تم تعيينه على اعتبار انه مستشار بالديوان الملكي.
- الدرجة التاسعة عضو بمجلس الشورى.
وقد عاش الرفاعي ضمن اطوار حياته التسعة محبوبا كريما حابا للناس، فهو جبل من العلم والادب والاخلاق، وصخرة من الحلم والأناة وسعة الصدر، لا يضيرها نقد ناقد، او حقد حاقد او حسد حاسد.
وحول حديث المؤلف عن ندوة الرفاعي الخميسية وصلته بصالونات الادب فقد كانت هذه الصلة منذ عهد بعيد ، فكان يجتمع بأترابه ولداته في مكتبات الحرم وهذه المكتبات هي صالونات ادبية تجمع بين دفتيها الفكر والثقافة والحوار والنقاش، وفي احايين اخرى كانت دور اصحابه هي مقر هذه الصالونات، لكن فكرة انشاء صالون ادبي خاص، ودارة تضم رجالات العلم والفكر كانت متمكنة في عقله وقابعة في ذهنه.
فدأب الرفاعي حينئذ على فتح داره لمثقفي زمانه مساء كل خميس، وكان الباعث الحثيث وراء هذه الندوة، كما جاء على لسان مؤلف الكتاب: (هو العمل الجاد في سبيل بث الوعي الثقافي، ونشره بين ابناء الوطن).
وهل استطاع الرفاعي هذا الاديب الكبير ان يحقق قصده وقصيده من خلال هذه الندوة الرفاعية؟ وهذا ما يجيب عنه المؤلف من خلال حديثه عن الارهاصات الاولى لهذه الندوة، ففي بداية عام 1380ه، حدث انتقال الشيخ الرفاعي الى الرياض، وترك عائلته في جدة يزورهم بين الفينة والاخرى، وفي الرياض كان يشعر بحاجته الى من يؤنس غربته، فخصص مساء الخميس لخاصة اصحابه من طبقة المثقفين لعقد هذه الندوة في داره، وقد بدأت الندوة الخميسية الرفاعية بذرة صغيرة، ما لبثت ان تأصلت واستطالت وامتدت جذورها في الارض راسخة قوية عميقة، وكان لرجال الصحافة دور كبير في الدعوة اليها، فهي مجلسهم الاخضر، ومجمعهم العلمي الثقافي الرائد، فزاد مرتادوها يوما بعد يوم، فاضطر الى تغيير مسكنه عدة مرات ليحصل على مساحة اكبر، وكان يحضر الندوة رجالات لهم ثقلهم ووزنهم في حياة المجتمع السعودي العامة والخاصة، وهم يحملون بين جوانحهم كتبا لا كتابا، مليئة بدرر المعارف وكنوز العلوم، ولم يكن لها كروت تطبع، بل هي مطبوعة في قلوب الناس وعقولهم، وقد صارت هذه الندوة ملتقى الوزراء والسفراء والعلماء والادباء والشعراء ورجالات الاعلام وحضور الندوة غير مشروط فيحضرها وجهاء المجتمع خاصة، وعامتهم من شباب مثقفين يبحثون عن مصابيح مضيئة تنير لهم دروب الفكر والادب والثقافة، ومن ابرز من كتب عن هذه الندوة واستفاض في حديثه عنها هو الدكتور عائض الردادي في مؤلف مستقل اطلق عليه العنوان التالي: (ندوة الرفاعي)، وشخصية الرفاعي في ندوته كما وصفها الاستاذ عامر العقاد في كتابه (لهيب السطور) حيث قال : (واول ما لفت نظري ان استاذنا الرفاعي لا يفرض الرأي، ولا يسيطر على الحاضرين، وانما الفيته يدع الكلمة تأخذ منطلقها، والرأي يجري كالماء النمير)، ولم يقتصر جهد الرفاعي على ندوته بل كان وراء فكرة المكتبة الصغيرة ومؤدى فكرته تأليف كتيبات صغيرة ذات مواضيع عظيمة، لم يتطرق لها الادباء او لعلها جاءت نتفا مبعثرة في كتب المؤرخين لم تشد اليها الألباب، فيعطيها حقها من البحث والدراسة والتنقيب ثم تنشر.
ومن بركات ندوة الرفاعي ميلاد فكرة مجلة عالم الكتب وحصر رسالتها في متابعة كل جديد في العلم والمعرفة والتأليف في العالمين العربي والاسلامي لتفتح الدروب امام عشاق الأدب والتراث، وكانت تصدر عن دار الرفاعي للنشر والتوزيع وكيف لا يهتم الرفاعي بالكتب ودعوة الناس اليها، فهو القائل في كتابه (رحلتي مع المكتبات) "الانسان هو المعرفة، والمعرفة هي الكتاب" وقد اشتهر الرفاعي بخلق كريم وادب جم فهو رجل الوفاء ورمز الاخلاص وقد جبل على حب الخير وعدم الاساءة الى احد واصيب الرفاعي بسرطان في البروستاتا، وقد رضي بأمر السماء الذي لا مفر منه، وظل يخفي مرضه هذا عن كثير من الناس ويتحمل وحده آلام المرض نفسيا وجسديا وفي فجر يوم الخميس 23 ربيع الاول عام 1413ه انتقل ذلك العلم الشامخ الى جوار ربه ولله درّ المؤلف حين قال: (وطويت بذلك الصفحة الاخيرة من رحلته الاخيرة، بل الحقيقة لم تطو وانما تزاحمت الكلمات على السطور، وبللتها الدموع، واضاءتها الشموع).
بقي ان اشير الى براعة المؤلف في عرض كتابه، وقدرته الخارقة في انتقاء الفاظه، وهل يحق لنا ان نصف هذا الكتاب بما وصف به المؤلف حديث غيره حين قال: (والمقالة في جملتها لا تحتاج الى تعليق او ايضاح فكل كلماتها وعباراتها قناديل مضيئة تهدي شذاها الى روح عبد العزيز الرفاعي) واما المراجع التي اعتمد عليها المؤلف فهي محصورة في ثلاثة اتجاهات الاول: معاصرة المؤلف الذاتية للمترجم عنه، والثاني: كتب الرفاعي نفسه ومقالاته، والثالث: ما كتب عنه من كتب او سطر عنه من مقالات او ما قيل فيه من شعر.
وكان المؤلف يأخذ بميزان العدل ومحك القسطاس، في حديثه عن هذه الشخصية العملاقة فيقول: (ولن اجعل للحب الذي اكنه لعبدالعزيز الرفاعي سلطة على كتابتي عنه فأنسب له ما ليس فيه، ولكني احاول قدر استطاعتي ان اثبت بالدليل ما يؤيد صدق حديثي عنه) وقد اضيف الى الكتاب ملحق للصور حاول المؤلف قدر الطاقة ان يثبت على صوره الشخصية اسمها، وهي مما اضفى رونقا وجمالا على بهاء الكتاب وحسنه.
والمؤلف كان امينا في نقله، مستأمنا على ادب غيره، وكان ايضا قلقا مضطربا متمنيا ان يخرج الكتاب على احسن وجه حين قال: (اعاود الكتابة من جديد مستعينا بالله على ان يوفقني ويعينني على اخراج هذا الكتاب بالشكل الذي تقر به اعين قارئيه) ولعمري لقد ارضى المؤلف الاذواق، واحسن الاختيار، ووفى الشخصية العملاقة حقها، وكتب اجمل الكلمات، ورمز لاحلى النغمات التي قيلت في عبدالعزيز الرفاعي عليه رحمة الله وغفرانه، فطب نفسا ايها الرفاعي الرائد فقد كتب عنك، ماخولك ان تحيا حياة هانئة طيبة ذائعة وانت في عداد الاموات.
واما صيتك فهو بوق ناعق يستخرج منه كل اديب ومثقف اجمل واحلى النغمات.