| مقـالات
تعج المجتمعات القديمة والحديثة بالجرائم الفردية المنظّمة.. فهي سنة الله ولن تجد لسنته تبديلاً. إلا أن تلك الجرائم تثير المخاوف أكثر وتبقى في ذاكرة الناس والتاريخ عندما يرتكبها من لا يتوقع منهم ارتكابها لاعتبارات وموازين تؤمن بها المجتمعات الشرية كل على حسبه. والجريمة تثير التقزز والاستنكار والمخاوف أكثر إذا ارتكبت من قبل «رجال الأمن» بتقصد وعلى بينة ودراية بعواقب ما يرتكبونه، ولهذا كانت جريمة هداية السلطان رئيسة تحرير مجلة «المجالس» في دولة الكويت على يد أحد رجال الأمن برتبة«مقدم» مصدر ذهول وحزن وفزع وإحباط ومتابعة لكل من ينتمي إلى الثقافة والكتابة والفكر والتعليم والسياسة في عالمنا العربي عموماً والخليجي خصوصاً.
الصحافة كما تُسمى«مهنة المتاعب» والاعتداء على الإعلاميين والكتّاب وأصحاب الرأي الآخر في العالم أمر معروف، والكويت بالذات من الدول الخليجية التي شهدت أكثر من غيرها مسارح عنف ومحاولات اغتيالات ضد بعض رجالات العلم والصحافة والفكر فسبق أن اعتدي بالسلاح على أحمد الجارالله وسبق أن اعتدي على النائب عبدالله النيباري وزوجته، إلا أن أغلب تلك الاعتداءات المذكورة وغيرها كانت لحساب قيادات وتجمعات من خارج الوطن تملك اذرعا طويلة يمكن ان تنفذ المطلوب إبان ظروف سيئة مرت على العالم العربي لم يعد لها مكان ولم تعد مقبولة ولا يستطيع أحد العودة إليها إلا على سبيل الانتحار السياسي. نعم كانت بعض النظم السياسية تهدد وتقتل وتفجّر وتفرض وجودها عن طريق القتل وإثارة زعزعة الأمن للدول الأخرى التي تختلف معها بل كانت تحاصر رجال الفكر والصحافة وتقمعهم من أي مكان وفي أي مكان لفرض ايدلوجياتها أو لستر عوراتها.
ولّت تلك الحقبة إلى غير رجعة وسادت ثقافة المعلومات الزاخرة والإعلام المفتوح، ولم تعد الأنظمة قادرة على التحرك بحرية للقمع خارج حدودها بل ربما لا تستطيع ذلك داخل حدودها للاعتبارات نفسها.
نعم سبق أن اعتدي على كتّاب وصحافيين وأصحاب آراء مختلفة عن المألوف، إلا أن الاعتداء على الكاتبة هداية سلطان السالم التي لا صلة بينها وبين الكثير ممن تابعوا حادث مقتلها الأليم باهتمام.. يختلف في مضمونه عما سبقه.
لقد تم الاعتداء من رجل أمن برتبة «مقدم» في وزارة الداخلية الكويتية وكان السلاح المستخدم كما ذكر مقرر لجنة الداخلية والدفاع في مجلس الأمة الكويتي النائب محمد الخليفة سلاحا حكوميا استعمله الجاني لتنفيذ جريمته، ويكفي أنه رجل أمن يحمل رتبة مرموقة بصرف النظر عن السلاح الذي استخدمه إن كان استخدم سلاحاً غير سلاح الدولة. وكان الدافع للجاني كما عبّر هو عنه حسبما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة(أنا بايع.. وفي نفسي غل.. وأمحي بلداًً دفاعاً عن قبيلتي) وهو يتوقع الإعدام لذلك هياأ نفسه للمصير السيئ يقول «نعم أنا أتوقع الحكم باعدامي لكن ما قمت به جاء للثأر من المقال السيئ بحق قبيلتي » أن الدافع والمصير واضحان في ذهن الجاني.. وقد حاول القتل ثماني مرات بعد عودته من رحلة الحج، لكنه لايريد أن يقتل أحداً معها في السيارة تورعاً لأن هدفه حسب فهمه مقنع ومبرز ويستحق التضحية بنفسه من أجله!
من هنا تأتي الكارثة الا وهي «ازدواجية ولاء رجل الأمن» في منطقة مازالت حديثة عهد بكيانات سياسية تسعى لترسيخ النظام والعدل والوحدة للحفاظ على المكتسبات التي حققتها على المستوى الوطني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأمني والتعليمي.
نسي الجاني «المقدم».. بأنه رجل أمن، وأنه الذراع القوية للمجتمع المدني وأنه الأمل عند حدوث الخطر، وأن المجتمع صنعه ودعمه من أجل أن يصونه وينميه. نسي الجاني «المقدم» بأن المواطن والمقيم يفرحان عندما يشاهدان رجال الأمن منتثرين في الشوارع والسكك وعلى الطرقات السريعة وعلى الحدود لأن وجودهم دليل على قوة الدولة وحضورها وهيبتها. نسي كل ذلك، وتعلق بحفظ وصيانة«قبيلته» التي لا أظنها الآن في وضع أفضل على المستوى الوطني، وعندما يخون هو وأمثاله الأمانة التي أناطها به المجتمع فالخطر لن يكون على عائلة وقبيلة بحد ذاتها وإنما سيكون الجميع عرضة للخطر. لم يكن الدافع للجاني «المقدم» شهوة عارمة عارضة تُغيّب العقول وإنما كان الدافع ايدلوجية وانتماء ضيقين مقيتين لا يليقان برجال الأمن أينما كانوا بصرف النظر عن ألوانهم وأجناسهم ودياناتهم.
حوّل الجاني المقدم هداه الله انتماءه من الوطن إلى الانتماء لفئة واحدة منه، وفرط في شرف المهنة واستسلم للنزوة، كم كانت«العوازم» الذين لاينبغي أن يحسب موقف المتهم عليهم ستكسب لو أنه انتمى إلى الوطن وحافظ على شرف المهنة وكان هو حكيم القوم فرفض ان قدم غيره شيئاً من هواجس الجريمة والقتل واستخدام وسيلة لا تقبلها الأنظمة والقوانين والأعراف وأبلغ الجهات الأمنية بما يمكن أن يتم للحفاظ على أمن الوطن كله وللحفاظ على ما تعلق به.. لمصلحة «القبيلة» نفسها.. فلا مكسب من القتل والجريمة والعنف بصرف النظر عن الأسباب والدوافع لذلك فإن من أراد المقدم الدفاع عنه يواجه إشكالية أكبر ويعيش مأساتين: الاولى مأساة مقتل الفقيدة رحمها الله باعتبارهم كويتيين تنبض فيهم روح الوطنية، والثانية مأساة ما حل بالجاني وبأسرته القريبة والبعيدة. وهاتان المأساتان ستبقيان مع مرور الزمن حسرة في قلوب العقلاء من تلك القبيلة أعانها الله التي وجدت نفسها بدون مبررات تحت المجهر محلياً ودولياً.
والذي نخشى منه أن الحادث المؤلم غير مرتبط بالدولة التي نُفّذ فيها، ولا بالقبيلة التي شهر مسدسه«المقدم» خالد للثأر لها، ولا بالجاني نفسه فحسب.إن الحادث مرتبط بعقلية وثقافية وأوضاع سائدة. ويحق لمتابعي الحدث أن يسألوا عن ولاء رجال الأمن، أهو للدولة وللحق والأنظمة أم لغيرها من الايدلوجيات والأحزاب والعوائل والقبائل والمناطق والأعراف؟؟؟
صحيح أن المجتمعات العربية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب حديثة العهد بمفهوم «الدولة الحديثة» والأجيال الحاضرة والقادمة تحتاج إلى أن تتعامل مع تلك «النقلة» وذلك يتطلب مجهودات علمية وتعليمية وتثقيفية لضمان انتقال حضاري ناجح يربط المواطن في أي موقع كان، بوطنه على أساس الشرعية والقانون والنظام والحق.
لقد حققت الدول المتقدمة إنجازاً كبيراً في مضمار «الوحدة الوطنية» وارتباط الناس بالقوانين والأنظمة مع اختلاف أعراقها ودياناتها والوانها فكيف بدول لا يختلف سكانها عن بعضهم في شيء، بل إنهم ينتمون لأمة واحدة صاغت منهم عائلة واحدة.. إلا عندما يرتبطون بمفاهيم الجهل والجاهلية والتخلف والمحدودية، كندا مثلاً يتحدث الناس فيها لغتين اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية ويهاجر لها الآلاف من كل حدب وصوب ومع ذلك يحس المهاجرون فيها بالاطمئنان وبالتفاعل مع الثقافة الجديدة وبالاندماج في المجتمع المدني المبني على أسس النظام والقانون. لا ولاء لعوائل ولا لحاكم ولا لوال ولا لإقليم، الانصياع والولاء للنظام الذي يتكفل بضمان الحقوق للجميع من الصغير والكبير، من الكندي الأصلي ومن الكندي المتجنس. ولا يعني ذلك أن لا مشاكل لدى كندا ولا غيرها من الدول المتقدمة مثل أمريكا وبريطانيا والدول الاستكندافية والدول الأوروبية. هناك مشاكل وهناك تفرقة ولكن القانون يحفظ حق الجميع ويطبق على الجميع وتجتهد الدول في إعادة صياغة الناس أصليين ومهاجرين ومقيمين لينضووا تحت لواء الدستور.
لذلك تحتاج المجتمعات العربية إلى العودة إلى ثقافتها وقوانينها ومراكز التعليم فيها لمراجعتها، ولتهيأتها للقيام بالدور المناط بها في سبيل «دمج المجتمعات» في الوطن الواحد لتكون مرتبطة بقوانينه، فخورة بعلمه، معتزة بالانتماء إليه أو العيش فيه، محاربة لكل ما يخدش أمنه وينتهك حرماته، ويقلل من شأنه.
عندما يحدث ذلك«الدمج» يمكن نقل العقول والقلوب من العوائل والقبائل والأقاليم إلى الكيان والمجتمع والوطن. ومن نافلة القول أن ذلك لايتم بالصدفة ولا بالقوة وإنما بسن التشريعات العادلة، وبطرح الأفكار النيرة وبترسيخ المبادئ الصحيحة وتنفيذ الخطط المدروسة التي تنقل المجتمع بالتدريج المدروس من رحاب العصبيات والإقليميات إلى رحاب الوئام والانسجام، ومن ساحات المكايدات والمنازعات إلى رياض التنافس في المروءات وتقديم الخيرات. نعم لقد استطاعت الدول التي تملك آليات قانونية ومضخات ثقافية أن تغير نفسيات الشعوب المهاجرة لها وأن تصنع منها قوة تعتز بما يسمونه «وطن الاختيار» لا «وطن الإجبار» فكان منهم المبدعون وكان منهم المحاربون وكان منهم رجال الاقتصاد والسياسة.
الدول العربية عموماً والدول الخليجية خصوصاً تستطيع صنع الكثير في مضمار «الدمج»، والحضارة الإسلامية قادرة على تغيير العقول والنفوس إذا ما توفّرت الإرادة السياسية والموارد البشرية والاقتصادية والعلمية. ماحدث في الكويت على محدوديته غير مقبول بكل الموازين، ولكنه لم يكن ليحصل في معزل عن الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي في المنطقة التي تزخر بموارد اقتصادية هائلة.. لكنها لم تسخّر بفعالية في مد الرقعة الثقافية وعلاج المشكلات التي بدأت تبرز على إثر حرب الخليج الثانية. المنطقة تحتاج إلى طرح ثقافي جديد يتسم بالايجابية والجدة والانطلاق والتمسك بأهداب الدين الحنيف على ضوء فكرإسلامي معتدل نيّر يعيد صياغة الإنسان فيها وفق نقائها ودساتيرها وطموحاتها.. لتنعم بالازدهار والاستقرار، ولتتلافى الازدواجية في ولاء رجال الأمن وغيرهم.
د. خليل بن عبدالله الخليل
|
|
|
|
|