| الثقافية
للشعر في وجودنا وجود روحي خاص مواز للوجود البيولوجي الذي نمارسه، وهو بهذا يشكل الجانب الاسمى والانقى والارقى من درجات الانسانية في هذين الوجودين، عدا كونه اللغة الانسانية الخالدة والوحيدة المشتركة بين الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وانتماءاتهم وافكارهم، وسيبقى ملجأ روحيا خالدا للإنسان، وبخاصة، ان الالفيات القادمة ستشن حربا تقنية آلية مادية تحاول وأد الانسان في الانسان وتهميش إنسانيته.
بالاضافة الى ان الشعر هو محور الفنون والآداب جميعا، وبه تتعالق، ومعه تحاول التراسل والاندماج، ومنه تحاول استعارة العناصر التي بها تتجدد وتنمو وتتطور.
والعلوم الانسانية والطبيعية والتقنية، وغيرها، لم تصل الى ما وصلت إليه، ولن تواصل مسيرتها وتطورها بدون الانصات الى من يستشرف لها المستقبل برؤاه، وبدون الاستعانة بتخيلاته المستقبلية الواسعة، او بدون استعارة بعض طرائقه في التخيل والرؤية والاستشراف.
وبالشعر خلدت الحضارات وأفكارها في حين زالت مظاهرها المادية، ولولا قصائد الشعراء القدامى لاندثر كثير من ذكر الأمم والرجال.
ومع اختلاف الأدوار التي يقوم بها الشعر في كل عصر، الا انه دائما يبتكر لنفسه ادواراً جديدة وبشكل ريادي وقيادي وهو يسبق مسيرة الانسانية ويتقدمها الى الامام، ومحافظاً في الآن نفسه على دوره الاساسي وهو حمل رسالة الكلمة في سبيل الانسان وفي سبيل تحقيق الانسان لحريته وحرية اختياراته ووجوده وفي سبيل تنقيته وتطهيره وتغييره وتطويره وفي سبيل العدل والحق والخير والجمال، وهنا تكمن بعض مظاهر عظمته وجوهره.
والشعر هو النشاط الانساني الرائد والقدوة والمثل في اثبات ان الالتزام الحقيقي لا يتعارض مع الحرية، من حيث التزام الشاعر بأصالته وهو ينبض بدماء مجتمعه وأمته ويخفق بتوجسات الانسان ويشترك معه في قضاياه ويجادل واقعهما وحاضرهما ويرى الى مستقبلهما المشترك، ويتسامى محاولا انقاذ الجمال وانتشاله من كل قيد أو عرف أو قاعدة او قناعة مسبقة يحاول اصحاب المصالح تطويقه بها. والشعر يدرك أنه المنتصر دائما، والخالد أبدا على الرغم من محاولات اعدائه محاربته بوسائل مختلفة وكل من منطلق واستراتيجيات مصالحه الآنية.
لم يخل التاريخ، وفي مختلف أزمنته، ومن أعداء للشعر يحطون من قدره، او يُلصقون به تهما هو بريء منها او يقومون بإسقاط ما تحمله نفوسهم من عيون عليه، او يلقون عليه باللائمة عند كل مأزق يواجهونه.
ربما، كان اكثر أعداء الشعر خطورة هم بعض النقاد والمثقفين الذين يدعون أنهم وبشكل تمويهي مخادع أمام تطور الشعر وتجدده وأدائه لرسالته واستمراره في أدائها حين يكبلون الشعر بأعراف وقواعد وانماط وقيود مدرسية قديمة ساهم «رصدها» والتأريخ لها في الوقوف في وجه تطور الشعر اكثر من خمسة عشر قرنا.
ولكن هؤلاء الاعداء، وبمختلف فئاتهم، يواجهون دائما وفي كل زمان ومكان مقاومة باسلة من محبي الشعر ومريديه واصدقائه ولعل ما تواجهه قصيدة النثر الجديدة من حروب خاسرة خير مثال (نعيشه) على هذه العداوات التي تحركها مصالحها المختلفة، ولعل ما يقوم به محبو ومريدو واصدقاء قصيدة النثر من دفاع وهجوم مضاد مثال يؤيد ما اقول وفي جبهة الحب والدفاع يقف الناقد محمد العباس مستبسلا مثابرا في الدفاع عن الشعر بعامة وفي التبشير بقصيدة النثر الجديدة بخاصة، بما أنها الخيار الشعري المستقبلي الاقوى والاوفر حظا في انتخاب الذائقة العربية القادمة.
في كتابه (قصيدتنا النثرية قراءات لوعي اللحظة الشعرية) يتجلى وعيه الحاد وفلسفته النقدية الجمالية الصادقة والدقيقة. يقول عن قصيدة النثر إنها (ليست مجرد فرط للاوزان واخلال بروح الايقاع في القصيدة وتلاعب باللغة او تحذلق لفظي كما يتعامل معها بعض الشعراء، بل هي افق لغوي متجاوز للاعتيادي من التعبير ونمط ابداعي يحتمل التجديد الثوري على مستوى الشكل والمضمون وتقنيات التعبير، ويحقق مفاهيم اعمق للزمن والاشياء داخل القصيدة، وأيضا تجسيد جوانب هامة من المسكوت عنه وحالات اللاشعور ستصله قصيدتنا اذا ما واجهت اختلالاتها بجرأة وصدق، وهذا لن يسمح ببروز قصيدة وذائقة نوعية وحسب، بل بانوجاد ذوات انسانية جديدة قادرة على التعاطي مع تحديات التغيير) والأهم في نظري هو (انوجاد ذوات انسانية جديدة).
|
|
|
|
|