| مقـالات
أخذت العلم في الفصل الأخير في الجامعة عن «أستاذة عراقية» نادرة ومميزة، ومازال صدى محاضراتها في مادة «الأدب العربي الحديث» يتردد في ذهني إلى الآن، وكجميع الأشياء الثمينة والنادرة في العراق، فقد كانت فارة خارج العراق هي وزوجها هرباً من سطوة النظام العراقي هناك، فقد كانا من طبقة «الانتلجنسيا» المعارضة لحرب الخليج الأولى.
وإن كانت في تلك المادة تحاول أن تعطي منهجاً دراسياً شاملاً عن الشعر العربي الحديث إلا أنها كانت لا تستطيع التوقف عن تجيير الريادة الشعرية في الشعر الحديث إلى شعراء العراق فتجعلها تتراوح ما بين السياب ونازك الملائكة، وهذه على كل حال غدت حقيقية تاريخية قد حسم الصراع فيها، ولكنها كانت تذكره باعتداد قومي لا يتجاوز الرصانة العلمية والموضوعية في أغلب الأحوال.
وكانت قصيدة السياب الشهيرة «أنشودة المطر» إحدى مفردات المنهج، يحيث كانت تسردها وتحللها بشكل مبدع وشجن وافر يضفي على القصيدة الكثير من ظلالها ورؤيتها الخاصة إلي وطنها المختفي خلف أسوار البعد والمنفى القسري.
وكانت عندما تصل إلى مقطع
«أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟!
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟»
كانت تفسر الحزن السيابي العارم بالمطر إلى طبيعة البيئة الجغرافية في مدينة البصرة العراقية، فتذكر أن انهمار الأمطار في البصرة يتحول إلى مأزق بيئي نتيجة لفيضان النهر، وتراكم الوحل في الطرقات، بحيث يجلب جميع تلك التعاسات إلى قلب السياب!!.
وبما أنني الآن قد انتقلت من مقاعد التلمذة المهذبة التي لا تناقش على الغالب، فباستطاعتي أن أناقش تلك المعلومة القلقة التي أرجعت حزن السياب إلى سبب واقعي ووحيد وبطريقة «ميكانيكية» مبسطة تنفي تلك العلاقة المركبة والمعقدة التي ينشئها الشعراء مع الكون من حولهم لاسيما أن السياب اختار لقصيدته عنواناً احتفالياً لا يتطابق مع قسوة هذا التحليل فوقع المطر له ذلك الجلال الغامض، حقائب السماء التي تتفتح برسل الحياة، تعرف طرق البذرة في تربة قلوبنا فتفجع سباتها، وتسطو على مغاليقها فتوقظ الضبابات والأحلام.. حتى تلك الخجلة التي لم تتدرب على الظهور في السابق!!.
المطر يرد للصحراوي ماء وجهه الذي تدفقه كثبان الرمل وقوانين الصحراء الصارمة، وتختلسه شمس طاغية، كيف لأهل الصحراء أن يقترفوا إثم الحزن في حضرة المطر؟! كيف يجرؤ السياب أن يغلق الأبواب في وجه رسل الحياة النورانية؟!
وثم هل كان شجن السياب بسبب المطر؟، أو أن المطر كان كالأب القديم الغائب، نبكي بين يديه ونخبره لواعجنا وانكسارنا في غيابه؟.. من هنا كان السياب يبكي في حضرة المطر.
ودوما الشعر الجميل الخالد يظل أبياً مستعصياً عن التفسير الواحد والبسيط والمباشر، فهو يستمد خلوده من كينونته المتحولة المتبدلة التي لا تخضع لآنية الزمان والمكان بل هو في صيرورة دائمة ومعان لا تكف عن التكشف، ومن هنا يستمد جماله الخالد والدائم.
EMAIL:omaimakhamis@yahoo.com
|
|
|
|
|