| الاخيــرة
كان الكتاب المقرر علينا للقراءة أو المطالعة هو كتاب (البخلاء) لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. وذلك في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية بالمعهد العلمي بالرياض وكان أستاذ المادة الشيخ الأزهري يوسف الضبع يرحمه الله.
ولاشك أن الكثير من القراء يعرفون ان هذا الكتاب من أطرف وأظرف كتب الأديب العملاق (الجاحظ) وفي هذا الكتاب من المواقف والحكايات المضحكة ما يعجز من يقرؤها عن تفادي القهقهة فضلا عن الضحك الصامت.
وقد كلفني أستاذنا الضبع بالقراءة فيه بحضوره والزملاء في الصف. وأثناء ما كنت أقرأ بعض الحكايات عن بعض البخلاء. . وهي حكايات لا تكاد تصدق لغرابتها سكت عن القراءة منشغلا بضحكة أوقفت صوتي. . فنظر لي الأستاذ مبتسما في الأولى؛ ثم مزمجراً في الثانية واتهمني وجميع الزملاء بأننا لا نحترم أساتذتنا. كما اتهمني بأنني (أخرجت لساني). واعتبر ذلك اهانة له. مع أنني متيقن أني لم أخرج لساني من فمي تلك الساعة. كما أنني لا أعرف ان كان في اخراج اللسان ما يعتبر إهانة للحاضر معك.
الحقيقة أنني ذهلت من تلك الغضبة (الضبعية) التي لا أساس لها سوى ضحكتي بيني وبين نفسي حتى بدون صوت.
وحين خرجنا من الدرس كتبت سبعة أبيات (أهجوه) فيها وأدافع عن نفسي. . وذهبت اليه في مسجد يصلي فيه شرق حي دخنة بالرياض فوجدته جالسا بعد صلاة العصر متكأ على أحد الأعمدة. فسلمت سلام الغاضب وناولته الأبيات فقرأها وأنا واقف لأرى رد فعله. . فوجدته قد امتقع لون وجهه. وقال حرفيا «مالك يا ابني؟!. . أنا ما قصدتك وحدك بالكلام وانما قصدت المبدأ وهو الضحك أمام المدرس. . وأنت ما شاء الله من أنبه الشباب والطلاب. ومحل حب وتقدير أساتذتك. فلا تغضب مني يا بني وسامحني إن كنت أسأت اليك بغير قصد».
فانصرفت ولم أقل له إني سامحتك. . وتلك من حماسة الشباب. . وليتني أعلنت مسامحته حتى يرتاح ضميره. . ولكن. .
***
والآن يأتي ذكر الفقرات التي أضحكتني وسببت ما تقدم ذكره.
قال الجاحظ:
«زعموا أن رجلا قد بلغ في البخل غايته وصار إماما. وأنه اذا صار في يده درهم خاطبه وناجاه. وقدّاه واستبطأه. . وكان يقول له كم من أرض قطعت وكم من كيس قد فارقت. . وكم من خامل رفعت. ومن رفيع قد أخملت. لك عندي ألا تعرى. ولا تضحى. ثم يلقيه في كيسه ويقول له اسكن على اسم الله في مكان لا تهابه ولا تذل ولا تزعج منه. . فلما مات وظن أهله أنهم قد استراحوا منه. قدم ابنه فاستولى على ماله وداره. . ثم قال ما كان إدام أبي؟ فإن أكثر الفساد انما يكون في الإدام. قالوا كان يتأدم بجبنة عنده قال أرونيها. . فاذا فيها حز كالجدول من اثر مسح اللقمة. قال: ما هذه الحفرة؟ قالوا كان لا يقطع الجبن. . وانما كان يمسح على ظهره فيحفر كما ترى. . قال فهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد. لو علمت ما صليت عليه. . ! قالوا فأنت كيف تريد أن تصنع؟ قال: أضعها بعيدا فأشير اليها باللقمة».
هذا أنموذج من طرف الجاحظ وسخريته وظرفه. . وهو من المبالغات غير الحقيقية وغير الواقعية.
وخير ما في هذه الطرفة الجاحظية انه لم يسم الشخص البخيل هذا ولا ابنه. . ولذلك سلم من ذنب «الغيبة» على الأقل. . أما أنا واستاذنا يوسف الضبع فغفر الله له وعفا الله عني عندما هجوته برعونة الشباب. . وقد دفنت الأبيات التي هجوته بها قبل موته رحمه الله.
|
|
|
|
|