| شرفات
يوسف القعيد واسطة العقد في جيل الستينيات.. وواحد من ألمع كتّاب هذا الجيل.. صاحب «الحرب في بر مصر» «ويحدث في مصر الآن» «ووجع البعاد» «ومرافعة البلبل في القفص».. مازال يوسف القعيد وهو على مشارف الستين حزينا لأنه غادر قريته الصغيرة منذ خمسة وثلاثين عاماً.. يعيش في احياء القاهرة مرغماً ويعمل بالصحافة مرغما.. لأنه مازال يحمل بداخله روح الفلاح الفصيح، بملامحه السمراء الطيبة.. ولأنه مازال يحلم بأن يرتبط وجوده بالابداع فحسب.. بعيداً عن حسابات الصحافة وقسوة مدينة الاسمنت والضجيج:
عالم الريف
* منذ روايتك الاولى (الحداد) وحتى الآن، يشكل الريف ملمحاً اساسيا في تجربتك الابداعية.. لماذا ... ؟
الريف هو المكان الذي احبه واعرفه جيداً.. والذي استطيع ان اكتب عنه وأنا مطمئن، وعندما اخرج منه واكتب عن بيئة اخرى أتوه.
في الكتابة عن الريف اعرف المبتدأ والمنتهى وادرك هذا العالم ادراكاً شديداً اما التحرك خارجه فإنه يحدث لي حالة (توهان).
* يلاحظ ايضا ان شخصياتك الريفية دائما في حالة صدام او ازمة مع المدنية مثل ما في (لبن العصفور) على سبيل المثال.. هل هذا يعني ان ثمة ازمة يعيشها يوسف القعيد باعتباره احد ابناء الريف في المدينة؟
في كل اعمالي تقريبا تجد هذه الازمة.. ربما لأنني أؤمن على نحو ما بأن القرى خلقها الله اما المدنية فبناها البشر.. فكل من ينتمي الى قرية أرتاح اليه على المستوى الانساني، قد يبدو في هذا ظلم لأبناء المدينة وكأن هذا موقف خاطئ منهم لكن الامر قناعة داخلية لدى ولا تقبل المناقشة.
لدى احساس بأن المدن بنيت في نهاية طرق المواصلات قديما لكي تنقل ما تنتجه القرية الى اهل المدينة، بهذا المعنى أعتبر المدينة عالة على القرية في كل شئ، .. ولهذا اميل الى القرية وإن كنت أُجبرت منذ منتصف الستينيات على ان اعيش في القاهرة. عشت فيها مرغما ومازالت مرغما حتى هذه اللحظة.
* اذا كانت تجربتك الابداعية تحرص على تصوير جدلية (الريف/المدينة) فهل مازلت تتابع ما حدث في الريف من تطورات سواء في وسائل الاتصال او الترفيه، كدخول الكمبيوتر أو اطباق الارسال وغيرها ... ؟
نعم مازلت أرصدها باهتمام، واقول إن الناس في القرية من حقهم ان يقتنوا كل شئ.. لكن في المقابل نجد أن الكهرباء عندما دخلت الى القرية كان من المفروض ان تساهم في الانتاج وليس في الاستهلاك.. المشكلة انها استخدمت على نحو استهلاكي وكان بالإمكان ان تستخدم مثلا في رفع المياه بدلاً من الاعتماد على البهائم.. خاصة ان ساعة العمل الواحدة تفقد البهيمة حوالي كيلو من اللبن واثنين من اللحم اي ان الكهرباء وما تلاها من مستحدثات استخدمت للترفيه وليس للإنتاج.
الحرب
* اذا انتقلت من بيئة الريف الى بيئة اخرى بارزة في عالمك الابداعي وهي الحرب التي تكررت في روايات كثيرة لك، لعل اشهرها (الحرب في بر مصر) ماذا تقول عن الحرب كتجربة انسانية وروائية؟
لقد عشت في القرية حتى جندت من عام 1965 حتى عام 1974م ومكثت في الجيش حوالي تسع سنوات، اذ كنت ضمن الدفعة التي صرح عبدالناصر في في اوائل عام 68 بأنها لن تُسرح من الخدمة حتى تحرير كامل التراب الوطني المحتل.
فكان هذا قدري الذي لا فكاك منه على الاطلاق.. كانت تجربة حياتية اساسية بالنسبة لي خاصة انني كنت مجنداً ولست ضابطا، مما اتاح لي أن أرى المؤسسة من «تحت» ناهيك عن هزيمة يونيو ويقظة اكتوبر اللتين عايشتهما من موقع الاحداث، كما عشت تطوير القوات المسلحة من المجند الأمي السابق الذي كان محمد علي باشا حريصا عليه لأنه أسلس قياداً الى ان حدثت النقلة الشديدة بعد هزيمة 5 يونيو واصبح هناك كلام عن الاستعانة بالمؤهلات والمتعلمين اي بالجندي المثقف.. هكذا اتيح لي ان اشاهد عن كثب تحديث الجيش المصري وتكوُّن عقيدته القتالية، بعد ان اصبح له عدو محدد هو العدو الصهيوني.
* برغم هذه التجربة الخصبة إلا ان البعض يتهم أدباء هذه المرحلة بأن ما كتبوه عنها مجرد أدب دعائي.. والبعض الآخر يراه أدبا دون مستوى الحدث ... ؟!
هذا السؤال يثير قضيتين.. الأولى: الدعائية.. ومعروف بالنسبة لي ان روايتي (الحرب في بر مصر) ظلت ممنوعة من مصر من 77 الى 85 وكان المنع بسبب محتواها السياسي لأنها تقول ان الحرب قام بها الفقراء وحولها الاغنياء الى مشروع استثماري ولهذا طبعت الرواية في بيروت وفي فلسطين المحتلة وبغداد والسودان والجزائر ولم تطبع في مصر إلا بعد ثماني سنوات.. بل ان الفيلم المأخوذ عنها (المواطن مصري) ظل مخرجه الراحل الكبير صلاح ابو سيف في معارك مع الرقابة والمحاكم حوالي عشر سنوات ولولا رقيب مستنير هو حمدي سرور لما قدمت الرواية كفيلم في بداية التسعينات.
اما بخصوص قضية ان ما يكتب ليس على مستوى الحدث فبداية يمكن القول بأن الحرب حدث مركب ومعقد ولا يمكن ان يعالج باستعجال.. فرواية «الحرب والسلام» لتولستوى مثلا كتبت بعد نهاية الحرب التي عالجتها بحوالي 75 سنة، اي ان تولستوى عندما بدأ كتابتها لم يكن هناك شخص واحد ممن حضر الحرب على قيد الحياة اظننا نتعجل وإن كان هذا لا ينفي كتابة أعمال جيدة بالفعل.. فعلى سبيل المثال بالنسبة لي كتبت ثلاث روايات عن الحرب هي (الحرب في بر مصر)، (وفي الاسبوع سبعة ايام)، (واطلال النهار).. كما كتبت مجموعتي قصص هما (تجفيف الدموع) ( وحكاية الزمن الجريح).
كما كتب كثيرون غيري عن الحرب.. لكن المشكلة ان ثمة مقولة عن دعائية ما يُكتب أو أنها دون مستوى ويستمر الترويج لها بلا يقين وبلا مصداقية، وهذا ما يردده كثير من الاعلاميين رغم عدم صحته فهم يطالبوننا كأدباء ان نقوم بدور اعلامي.. وأذكر ان الحرب عندما انتهت اعطونا ملفات كي نكتب عنها قصص وهناك كاتب لا داعي لذكر اسمه كتب قصة بعنوان (حدث في اكتوبر) وقدمت بعد اسابيع لكنها لم تكن ابداعاً، اذ لا يُعقل ان تعطيني «دوسيه» وتقول لي أخرج منه ادبا.. لا أظن ... !!
الصحافة والادب
* اذا كانت الازمة ازمة إعلام أو إعلان عن هذا الادب الذي يمثل فترة حرجة في تاريخنا العربي.. فأنت كصحفي واعلامي يقع على عاتقك عبء التوصيل ... ؟
أنا كصحفي في مؤسسة قومية مجرد موظف وليس لدى منبر لأقول فيه ما اريده.. هذا غير صحيح.. فمثلا لم انشر رواية واحدة لي في المجلة التي أعمل كمدير تحرير لها، وكل ما أفعله هو محاولة التوائم بأقل الخسائر الممكنة ولا يتصور انني كصحفي سأغير العالم.. انني مسئول فحسب عن كلمة ادب كتبتها فقط لاغير.
* برغم ما تقوله، إلا أنك مازلت تمارس العمل الصحفي بدأب في منابر عدة سواء مقالات او إجراء حوارات او غير ذلك؟
اتمنى ألا أفعل هذا ولكني مضطر إلى ذلك كي أعيش.. وأتمنى من هذا المجتمع أو هذه الدولة ان تقدر الكاتب لمجرد انه كاتب وأديب وليس لأنه صحفي.. انني افعل ذلك مرغما وأقتطع وقته من وقت الابداع والكتابة الأدبية، ولا املك إلا ان احلم معك باليوم الذي أكتفي فيه بالإبدع.
*هل هذا ما يجعلك تصرح أكثر من مرة بأن جيل الستينيات (مظلوم) .. ؟!
بالطبع.. لأن جيل الستينيات هو الذي يحمل مهمة التعبير الادبي في مصر حاليا.. وهو الذي يمثل وجه الثقافة المصرية الآن ومع ذلك فهو مظلوم.. مظلوم.. فأنا على سبيل المثال أقترب من الستين وهناك من جيلي من تجاوز الستين مثلا اصلان وبهاء طاهر وصنع الله ابراهيم.. فقارنّا بنجيب محفوظ عندما كان في مثل سننا.. وفي مصر الناصرية التي كانت ضده.. كيف كان وضعه وكيف اصبح وضعنا الآن؟!وعلي اي حال، هناك تساؤل عن ماهية جيل الستينيات.. فما معنى كلمة جيل؟ هل المقصود كل من كان يكتب في الستينيات؟ بهذا المعنى يصبح نجيب محفوظ من جيل الستينيات؟ ام هل المقصود كل من بدأ الكتابة والنشر مع بداية الستينيات؟ أعتقد ان كل من بدأوا النشر في هذه الفترة لم يأخذوا حظهم، ولم يصبحوا نجوما في المجتمع او الدولة، او حتى مرجعية من ضمن المرجعيات الأخرى ... !
* لكن هناك عدد كبير ممن بدأوا في الستينيات كنقاد او ادباء يتولى الآن مهام ومسئوليات متعددة.. على سبيل المثال جابر عصفور وسمير سرحان ... ؟
ربما يكون ثمة افراد من جيلي تولوا بالفعل لكن بشكل عام نحن لا نصيغ ولانشارك ككل.. بل لا أعتقد أن الاكاديميين يمثلون جيلنا، فيما يعنيني فحسب المبدعون الذين بدأوا معاً في تلك الفترة.
* وبماذا تفسر اتهام البعض لك بأنك تنأى عن المشاركة في المنتديات الادبية .. ؟
بالعكس أنا أرحب واشارك.. لكن الانسان في مرحلة معنية لا يستطيع ان يفرض نفسه أو أن يسعى الى الناس دون ان يسعى الناس اليه.. اظن ان استجابتي للآخرين جيدة خاصة الاجيال الجديدة التي اتابعها باهتمام وبقدر ما املك اشجعها.
الشباب والسينما
* لكن ألا يتعارض هذا مع ما يقوله الشباب أنفسهم بأن جيل الستينيات لم يقدم لهم ما سبق وأن قدمه الراحل عبدالفتاح الجمل لجيل الستينيات في بداياتهم .. ؟!!
أعتقد أن هذا الكلام فيه مبالغة.. فأنت كشاب اذا جئتني بمجموعة قصصية وقرأتها اعجب بها.. ماذا املك بعد ذلك؟ لا شئ.. لا املك نشرها بالطبع وان كان يمكن ان اكتب عنها.. فيما يخصني ورغم أني لا املك قراراً في اي مكان كل ما استطيع ان افعله للشباب افعله دون تردد.بالنسبة للدور الذي لعبه الراحل عبدالفتاح الجمل مع جيلنا، فلا شك ان هذا يرجع الى كونه يدير صفحة يومية في جريدة المساء وكان اي فرد من جيلي يستطيع ان يذهب اليه بالقصة فاذا اعجبته ينشرها دون تردد الآن لو اعطيتني قصة واعجبتني لا استطيع ان انشرها لأني لا املك هذا الترف!
* سبق ان عرضت السينما المصرية فيلمين عن روايتين لك.. هما (المواطن مصري) و(زيارة السيد الرئيس) والآن يتردد أن روايتك (وجع البعاد) سوف تتحول الى مسلسل تليفزيوني..؟!
بالفعل رواية وجع البعاد أعدت لتكون مسلسلاً تليفزيونياً من اخراج اسماعيل عبدالحافظ الذي يضع اللمسات الاخيرة الآن.. وقد وافقت على ان تتحول الى مسلسل لأن الناس لا تقرأ غالبا، ويكتسب العرض السينمائي التليفزيوني اهميته من كونه اكثر انتشاراً من الروايات نفسها وهذا امر يسعدني كروائي، لكن لا اسعى وراء ذلك، لدرجة انني لم أقرأ سيناريو المسلسل ولكني أتمنى ألا يخل بالرواية كثيراً.. وهي رواية تدور حول فترة القطيعة بين مصر والدول العربية بعد كامب ديفيد.
* ولماذا تبدو علاقتك بالدراما علاقة مترددة، تشهد نوعا من المد والجزر ... ؟!
في البداية كان موقفي من الدراما التي تؤخذ عن اعمالي (خاطئا) وكنت متأثرا فيه بنجيب محفوظ، حيث قلت انني مسئول عن اعمالي وهم مسؤولون عن افلامهم.. ورغم أنه لم يحدث عدوان على المعنى الجوهري للفيلمين لكن حدثت تغييرات ربما لو كنت ايجابيا في موقفي لما حدثت.. وهذا خطأ مني نتيجة قناعتي بما قاله لي نجيب محفوظ بأن هذه السكة وجع دماغ وتسرق الوقت من الروائي!
* تكرر هنا اسم محفوظ كثيراً ، ويعلم الكثيرون أنك من خلصائه المقربين.. فكيف تصف هذه العلاقة ... ؟
علاقة جيدة وحميمة باستثناء اختلافي الجذري مع رؤيته السياسية وهو يعلم ذلك تماما.. مختلف معه في موقفه من جمال عبدالناصر وموقفه من انور السادات، وموقفه من العلاقة مع الاسرائيليين.. وهو خلاف جذري لكن الرجل يحترم هذا لأنه ابن الليبرالية المصرية البكروالصميمة فهو الوحيد الذي يمكن ان تختلف معه دون ان تكرهه او يكرهك، ولا يصل الخلاف معه الى محن.
|
|
|
|
|