| شرفات
محمد بركة احد فرسان الجيل الجديد في الساحة الابداعية المصرية والعربية تأتي كلماته مشحونة بعبق الماضي ورائحة ذكريات شجية.. يحاول دائماً ان يمسك الاحساس حياً طازجاً قبل ان يطويه النسيان، وقبل ان تسجنه اللغة.. انه يكتب ببراءة مطلقة دون حسابات، ويجتاز المعرفي والجاهز ليكتب بدهشة طفل يهرب من غربته عائداً الى احضان ام.. الام.. القرية.. الطفولة هذه ملامح عالمه القصصي التي يضغطها في لحظات سريعة متوترة.. وغائمة احياناً.. وحين يتكلم بحس الصحفي فانه لا يخشى ان يشتبك مع نفسه ومع ابناء جيله، بل ومع السابقين ايضاً.. من هنا جاء حواره للجزيرة حالة من البساطة والاغتراب والشجاعة معاً:
لغة البرقيات أفضل
* كوميديا الانسجام باكورة انتاجك القصصي.. كانت صادمة للقارئ العادي بسبب كثافتها الشديدة كأنها برقيات.. فما السبب وراء ذلك؟
من الناحية الشكلية ليست كل القصص موجزة للغاية.. ففي نهاية المجموعة هناك قصتان طويلتان نسبياً هما (ابو بخيت) و(هوامش مدونة بالرصاص) لكن بالفعل بقية القصص ذات شكل برقي كما تقول ولا ادري لماذا؟!.. هناك احاسيس عامة بداخلي تكره (الثرثرة) وتنفر من حشد التفاصيل الكثيرة قد يكون هناك من الادباء من يمتلك قدرة فنية على اقامة صرح من تفاصيل كثيرة، لكن احساسي بالقصة يجعلني اتصورها وتراً مشدوداً او لحظة مقتنصة من اسهل طريق.. هذا الاحساس الجمالي بالقصة القصيرة يجعلني اعتقد انها لابد ان تكون بسيطة وموجزة.. وقد يكون هذا نتيجة طبيعية كرد فعل تجاه محاولة كتابة رواية بما يعني هذا من نفس طويل واستمرار في الكتابة ولكن للاسف ضاعت مني مسودة الرواية (بعد استحسان كثير من الاصدقاء لها) مما اضطرني الى استعادة بعض المقاطع او المواقف في صورة موجزة كقصص قصيرة.
* من اول لحظة، حين يدخل القارئ الى عالمك القصصي يكتشف انه امام عالم طفولي ساحر وغامض.. فما هي اهم ملامح تلك التجربة؟
هناك نبع اساسي استقيت منه تلك القصص، حيث استلهمتها من ذكرياتي في قرية صغيرة على حافة النيل، ففي اعماق الدلتا عشت طفولة ساذجة وساحرة، حيث الافق الفسيح ومساحات الخضرة والهرولة وراء الفراشات الملونة.. هناك طيف وردي يجتاحني ويملؤني بصور ضبابية وغائمة لكنها في نفس الوقت فاتنة.. انها فترة اشبه بالحلم المعاش حيث كنت طفلاً صغيراً يلعب بجانب جده العجوز الفلاح.. ربما هناك من الادباء من يمتلك ذكريات اغنى وبالتأكيد اهم.. خصوصا من عاشوا صباهم في القرى والارياف ثم اكملوا مشوار الحياة بعد ذلك في مدن عتيقة ومناقضة للبساطة الاولى.. ودائما تكون هناك مشكلة في تناول هذا العالم الغامض والبعيد وراء اطياف الطفولة حيث يبدأ الكاتب الابداع وهو مهزوم مسبقاً وخاضعاً لاشكال متعارف عليها سواء في البناء القصصي او استخدام اللغة، او خاضعاً لمقولات نقدية ضخمة مثل (ما بعد الحداثة) و(الحساسية الجديدة) وبالتالي يحاول الكاتب ان يسجن تجربته البريئة في اطار جامد، يشوه التجربة ويجعل الكتابة باردة ومفتقدة للخصوصية والحرارة، وهذا ما حاولت ان اتجنبه.. حاولت ان اكتب عن تجربة البراءة بدرجة كبيرة من البراءة ومن التخفف من احمال التكنيك القصصي المتعارف عليه
* هذه الكتابة المختلفة تؤكد على انتمائك الى جيل مختلف عن السائد.. فكيف تتعامل مع الكتابة السابقة جمالياً ونقدياً؟
بداية ارفض وضعي في سياق يجعلني اتكلم بصيغة الجمع وبلسان الآخرين فمازلت اشعر بانني مشروع فردي خارج سياق الجيل.. لكن بالامكان القول بان الكتابة السابقة بالنسبة لي باستثناء يوسف ادريس وبعض كتابات عبدالحكيم قاسم ومحمد المخزنجي وابراهيم اصلان والبساطي لا اشعر باي تواصل حميم مع تلك الكتابة السابقة باستثناء من ذكرتهم.. وينتابني شعور قوي بان هناك مشاريع معروفة ومهمة واسماء ذات رنين في مساحة الابداع، لكنها لم تعد مخلصة للكتابة وانما يعيشون على ذكريات أعمالهم الاولى في الايام الخوالي.. لقد اصبح كتابنا الكبار اكثر اخلاصاً للمناصب وللمصالح الشخصية، وهذا ما المسه بدقة من خلال عملي كصحفي.
* لكن الا يعني هذا انك ممن يتنكر لآبائه او لمن سبقه على الدرب؟
لا يعنيني افتعال حالة من الامتنان للكتابة السابقة مادمت اشعر بالغربة معها، وانها ليست الجذور التي ترويني، ولم تفتح لي درباً.. اعلم ان هذا الكلام قد يغضب الكثيرين، لكنني بالفعل كقارئ اشعر بغربة انسانية امام كم هائل من تلك الاعمال.. حتى على مستوى جيل الستينيات تحديداً سنجده عاش في احضان اسماء كبيرة احتفت بهم مثل يحيى حقي وعبدالفتاح الجمل.. فهل جيل الستينيات الاساتذة بالنسبة لنا، او هكذا يفترض هل هناك منهم من احتضن احداً من جيلنا؟ او على الاقل يرفع سماعة التليفون ويشيد بقصة احد الشباب.. لا اظن ان هذا يحدث.. لانهم اصبحوا مشغولين ببدلات السفر والندوات واعمال (التلميع والورنيش) اكثر من انشغالهم بكتابة رواية مثلاً ... !!
* بالمقارنة مع الجيل السابق.. كيف ترى كتابة جيلك ... ؟
ربما يدهشك ان نفس الغربة وعدم التواصل اشعر بها مع كتابة جيلي، رغم انه من المفترض وجود عوامل كثيرة مشتركة فيما بيننا.. وهذا يجعلني ازعم ان الجيل الحالي وقع في خدعة وشراك المقولات الرنانة المعلبة والمغلفة، استوردها لنا بعض الاشخاص الذين يتصورون انفسهم اوصياء على الجيل.. فكانت النتيجة الكتابة الغامضة والمفككة والباردة.. رغم انه جيل على المستوى الانساني يمتلك الحساسية والمعاناة والخصوبة لكن هذه الروح تتسرب في الدردشة على المقاهي وينطفئ الوهج والحرارة بمجرد الجلوس على المكتب ومحاولة التعبير وفق قوالب جاهزة.. وهي حالة مثيرة للشفقة ان يحاول الكاتب استرضاء السادة النقاد الذين احتلوا وعيه من قبل ان يبدع فاصبح هم الكاتب الشاب كيف سيتلقى النقاد عمله وكيف سيصنفونه ...؟!
شريف صالح
|
|
|
|
|