| أفاق اسلامية
أعلام الأمة وعلماؤها هم أقمار تتلألأ في سمائها، ونحمد الله أننا في أمة لايكاد يرحل عالم فيها إلا ويأتي من بعده عالم أو أكثر، بحيث تبقى مسيرة الحق والدعوة والعلم مستمرة إلى ما شاء الله.
قد يظن أحدنا أن العالم هو لعصره، وبرحيله وذهاب عصره ينتهي دوره ويتوقف، والحقيقة غير ذلك، فالعالم بعلمه النافع مستمر متواصل مع الأجيال، وفي الحديث الشريف: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، أو علم ينتفع به».
وإذا كان التاريخ يسير قدماً نحو الأمام بلا توقف، ولا تراجع، فإن نظرنا صحيح نحو الأمام نتطلع للمستقبل، ولكننا لا نقطع جذورنا بالماضي الذي نستمد منه قوتنا وحيويتنا واندفاعنا المشرف نحو غد أفضل وحتى لبناء حافز مجيد أروع، وتلك الجذور تصل بنا للعديد من مراكز الفخر والفخار والمجد والسؤدد والاعتزاز التي كانت ذات يوم نبراساً لهذه الأمة، لا بل وصل تأثيرها لباقي الأمم ولأنحاء المعمورة المختلفة.
وقد أهداني أخي معالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر نسخة من مؤلفه القيم «من مشاهير علمائنا» الذي قام بطباعته نادي الطائف الأدبي، وهو عبارة عن محاضرات ألقيت في النادي، حرص النادي على طباعتها في هذا الكتاب الثر تعميماً للفائدة والخير.
وإنني لأجد في ذلك عملاً كبيراً وفعلاً جليلاً، فهذا هو الاستذكار المطلوب، وهذه هي العبر المطلوب البحث عنها، وتوثيقها، وتعريف الأجيال بها للاستزادة منها، وكذلك للسعي نحو الأفضل والأسمى، والوصول بالبحث العلمي للدرجة الراقية المطلوبة.
إن هذه الديار كانت ومازالت زاخرة بالعلماء الأجلاء، والشيوخ الأفاضل، وهذه نعمة ومنة من الله تعالى تحتاج منا الى كل الرعاية والعناية لإظهارها وإبرازها {وأما بنعمة ربك فحدث}.
استهل المؤلف كتابه بحديث شيق حول سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله عالم الديار السعودية وفقيهها (1311 1389ه) فذكر أنه عالم جليل القدر، جم التواضع، هو من القلة النادرة من الرجال الذين تكبر مكانتهم بعد ما تقلب سيرة حياتهم وعند استجلاء مواقفهم، قد منحه الله خصالاً شتى: شدة في غير عنف، ولين من دون ضعف، علاوة على ما خصه الله من ذكاء وفطنة وورع وتقى مع حب للمساعدة وعطف على المحتاجين، إنه العالم الفذ إمام عصره ومفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها، وتحدث بعد ذلك بإسهاب عن مولده ونشأته ودراسته الأولى، ومن ثم خص طلبة العلم بفقرة خاصة حيث قال: للبيئة التي نشأ فيها المرء أثر في توجيه مساره في الحياة، وللنفوس دور في التعلق بما تفتحت عليه العيون، ووعته الذاكرة حسبما هو دائر في محيط الإنسان، والشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله الذي نشأ في بيت علم، ومن سلالة علم، ونشأ في محيط كله شرف ودين، مقروناً فيه القول بالعمل قد تولد عنده حب العلم، والحرص عليه، منذ بدأ يعي ماحوله، وقد اهتم به والده الشيخ ابراهيم بن عبداللطيف عالم الرياض وقاضيها توجيهاً وترغيباً عندما أدرك من ذكاء ابنه وفطنته ما يهيئه للأخذ من العلم بنصيب وافر، أما جلوسه للطلبة فقد بدأ منذ عمر مبكر لسعة علمه ومعرفته.
لقد ذكر المؤلف أبرز تلاميذ الشيخ ومؤلفاته التي يضيق المجال لوصفها وشرحها أو حتى مجرد ذكرها، أما تقديره للعلماء فحدث عنه ولاحرج، وكانت مناسبة طيبة للحديث عن أخلاقه وصفاته التي تعتبر كلها مثالاً وعبرة وأنموذجاً يحتذى به في كل زمان ومكان، ولم يفت المؤلف أن يذكر شيئاً من نوادره وشعره ونماذج من فتاواه، ومن ثم تحدث عن الحادث الجلل المتمثل في وفاة الشيخ الكبير.
ثاني الأعلام كان العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز مفتي المملكة العربية السعودية (13301420ه) الذي كان واحداً من أولئك العلماء الذين تحزن الأمة لموتهم، فهم مصابيح الدجى، لقد كانت سمعته ومكانته والقناعة بما يصدر عنه تتجاوز الحدود إلى العالم الإسلامي في أطراف المعمورة من الأرض، فكلهم يصدرون عن رأيه، وكلهم راضون بفتاواه، وجميع من يلجأ إليه لايطمئن قلبه إلا عما صدر عنه، رغم أنه لم يغادر المملكة، بل والأغرب من ذلك أنه لم يحمل بطاقة تثبت هويته، لكن عمله وصل القلوب ، وكلماته نفذت مع المسامع بالوسائل العديدة، فكان علماً يشار إليه بالبنان، وعالماً ينهل العالم وغير العالم من مورده العذب لما منحه الله من علم فياض وحافظة يندر مثيلها.
يتحدث المؤلف عن سيرة الشيخ الذاتية بما فيه من عبر، ويعرج على شيوخه وأعماله ومؤلفاته الكثيرة الزاخرة بأصول العلم وجواهره، كما يتحدث عن صفات الشيخ وسجاياه من حلم، وبعد نظر، وكرم حاتمي أصيل، وتواضع، وسماحة نفس، وزهد بالدنيا، وحب للتنظيم، وسعي في مصالح الآخرين، واهتمام بأمور المسلمين في كل مكان، وبره، ووفائه، وحبه للعلم والعلماء، أما مكانته فحدث عنها ولاحرج، وخصوصاً عند العلماء والفقهاء، وأفرد المؤلف فقرة خاصة للمنامات التي رؤيت لسماحته، وكذلك منهجه في الفتوى، ومن ثم تحدث عن صبره، وتحمله للأمراض، وثقته المطلقة بالله تعالى، ومن ثم مصاب الأمة الجلل بوافاته يرحمه الله.
ثم تحدث المؤلف عن الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع أحد رواد العلم والتعليم في المملكة (1300 1385ه)، والذي وكل إليه الملك عبدالعزيز رحمهما الله مهمة الإشراف على التعليم في المملكة فترة من الزمن، لقد اهتم بالعلم، وبذل طاقته في نيل المراتب والرفيعة منه متابعة وشداً للرحال، بدافع الهمة، وحب العلم لذات العلم حيث بذل في سبيله أقصى ما استطاع من جهد وتغرب عن الأوطان، إرضاء لنهمه في نفسه، فكان متأسياً بالعلماء من سلف هذه الأمة في حب العلم دراسة وتدريساً، وتحمل شظف العيش في سبيله استهانة بالتعب ووعثاء السفر واحتساب كل ذلك لله سبحانه، فحقق الله تعالى على يديه خيراً في كل مكان حل فيه.
تحدث الكاتب عن نسبه ومولده الطيب، ثم ذكر بإسهاب نشأته المباركة ورحلته الطويلة في طلب العلم، ولم ينس ذكر شيوخه الأجلاء، وتلاميذه النجباء، ومؤلفاته التي كثرت وتعددت مع نفع عميم دائم وأعماله التي تجلت بالدعوة إلى دين الله الحق، وتوضيح منهج السلف الصالح للناس، أما صفاته وآثاره فكانت هي العبرة والقدوة بحد ذاتها، ويجدر بأي منا أن يراجعها ليجد الدر فيها، وهناك أمر خاص بالشيخ يعتبر ثروة تاريخية كبيرة، وهو أوراقه يرحمه الله ومكتبته بما فيها من وثائق ورسائل، وكذلك لم يغفل المؤلف ذكرياته ووفاته يرحمه الله التي كانت خسارة كبرى للأمة.
وبعد ذلك تحدث المؤلف عن الشيخ عبدالله القرعاوي مجدد الدعوة في الجنوب (1315 1389ه) فلقد كان له ذكر على كل لسان، وحديث شهي في كل مجلس، وهذا ما حدا إلى التمحيص عن سيرته ونشأته وعمله وبدايته، وكانت كلها مجالاً خصباً للاقتداء والاعتبار، لقد كان العالم الداعي والفقيه المتمكن الجليل، ولذلك خص المؤلف كل هذا بحديث مسهب مشوق، ولم يفته أن يذكر فيه نسبه وولادته واشتغاله بالتجارة وصفاته الرائعة وأخلاقه وتواضعه وحرصه على العبادة ورحلاته في طلب العلم، وزهده في الوظائف وإجازته العلمية ودعوته في الجنوب، ورعاية الحكومة أيدها الله وحصيلة الجهد المتميز الذي قام به، ولابد في الختام من حديث حول وفاته يرحمه الله .
وقد تحدث المؤلف بعد ذلك عن الشيخ عبدالرحمن السعدي عالم القصيم الزاهد (1307 1376ه) الذي كان من الشموع المضيئة للدرب المظلم حيث اتسعت دائرة النفع من علمه الغزير بالكتب والرسائل التي أخرج، وبالطلاب الكثيرين الذين تتلمذوا عليه، وبالأحاديث والمواعظ والفتاوى التي تعدى نفعها البلاد، واستفاد منها الخاص والعام.
لقد تحدث المؤلف عن نشأة الشيخ الفاضل الطيبة، ونسبه الجليل، وكيف أنه بحر في علوم الشريعة على منهج السلف الصالح، وكان لابد من إفراد فقرة خاصة لشيوخ الشيخ، ومكانته العلمية، ومنهجه في التعليم، وتلاميذه، وأخلاقه الطيبة المباركة، وتجديده وأعماله، فقد كان من المتوقدين ذكاء إلى جانب الورع والزهد في وقت كادت تجف فيه منابع العلم ولم ينس المؤلف ذكر مؤلفات الشيخ ابن سعدي التي يضيق المجال عن ذكرها لغزارتها وشهرتها لما تضمه من علم نافع، وكالعادة كان الذكر الأخير لوفاته يرحمه الله في مدينة عنيزة.
ومن ثم تحدث المؤلف عن الشيخ محمد البواردي (1319 1404ه) وهو العالم الشاعر والقاضي المرح من مواليد شقراء، وفيها نشأ وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ قسطاً كبيراً من كتاب الله، وحاول أبوه أن يجعله في التجارة كما هو، ولكن حب العلم والعلماء أخذه باتجاه آخر ألا وهو طلب العلم، فرحل من أجل ذلك، وهو صغير لايتجاوز الثانية عشرة من عمره.
ثم يتحدث المؤلف عن أعماله الجليلة الفاضلة وآثاره التي قل مثيلها، وفراسته المشهود له بها ونماذج من مداعباته، والختام كان بوفاته رحمه الله .
أما الشيخ حافظ الحكمي نابغة الجنوب (1342 1377ه) فكان ختام الكتاب به، وكانت البداية بمولده ونشأته العطرة المباركة، وطلبه الحثيث والدائم للعلم، وفصل خاص أفرد لمسيرته العلمية التي كانت مميزة ومتميزة، وأما آثاره العلمية فحدث عنها ولاحرج، وكذلك الأمر مع أعماله وصفاته التي شهد له بها القاصي والداني، فكان المثال والنبراس لأبناء هذه الأمة ولجيله، وجاءت وفاته بمثابة الحدث الجليل الذي يلم بالأمة.
إن هؤلاء العلماء مصابيح الدجى والأنوار الساطعة في سماء الأمة، والذين لايمل الإنسان من الحديث عنهم، والواجب أن نبحث عنهم، ونأخذ شهادة التاريخ حولهم. والله من وراء القصد.
alomari1420@yahoo.com
|
|
|
|
|