| الثقافية
«مدار الجدي» رواية للأمريكي «هنري ميللر» ولكن فيها من الشعر العظيم والرائع أكثر بكثير مما في كثير مما يُنشر « على أنه شعر».
يوم تخلى عن الروح أصبح كلُّ مايلي أكيداً مطلقاً، حتى وسط العماء، وبين الحقيقي والزائف وجد السخرية، المفارقة، وكان ألد أعداء نفسه، عندما كانت النعومة والخصب، وفوقهما التنافر والفوضى ورأى في كل شيء عكسه، واتخذ استقلاله شكله، وأصبح فيلسوفاً بين أناس يشيع بينهم مبدأ النظافة والاستقامة بل ونظيفون بشكل مؤلم، ولكن في داخلهم يسكن العفن، وبين أناسٍ يعملون من أجل غدٍ لا يأتي أبداً، ويبحث عن أسباب لادانتهم، وهي أفضل طريقة لإدانة نفسه، فهو يشبههم تماماً، في العديد من الأوجه، وظن لفترة أنه يستطيع الإفلات، ولكن بمرور الوقت صار يرى أنه ليس أفضل في شيء، بل أسوأ بقليل، لأنه يرى بوضوح أكثر مما رأوا في دهرهم، وكان يحمل روحاً قلقة وروحاً معذبة غير قادرة على العيش في الحاضر، ولم يجد سوى مغامرة واحدة فقط، وهي أن يتجه عميقاً إلى النفس، وكان في أعماقه يمثل تناقضاً، اعتبره الناس جاداً متسامياً في مبادئه أو مرحاً عنيداً أو مخلصاً مهيباً أو متهاوناً وخالي البال، بينما كان « في الحقيقة» هذه الأمور مجتمعة، بل أكثر من هذا، كان شيئاً لم يشك به أحد.
«ظلت كتابات هنري ميللر ممنوعة لسنوات طويلة في بلاده: الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قُدِّم إلى المحكمة في أوائل الستينيات بسبب تلك الكتابات، حوربت كتب ميللر وحوكم هو لأنه يعرّي بلاحياء ولا شفقة المجتمع الرأسمالي المعاصر، إنه يعرّي حتى العظم الآلة الرأسمالية الأمريكية بدفق فني عجيب، وبتلك اللغة المكشوفة الوحيدة القادرة على التعبير عن مجتمع كالمجتمع الأمريكي، ولقد اضطرت هيئة المحكمة إلى أن تقرّ بفائدة هذا النوع من الكتابة، وإن كانت لم تحبذ انتشارها. إننا في هذه الرواية أمام شهادة إنسانية حارة من ابن المجتمع الأمريكي نفسه على التدمير الفظيع الذي توقعه الرأسمالية الأمريكية في الانسان والحضارة. إننا هنا أمام دعوة إنسانية جذرية إلى المساهمة في إطلاق طاقات الانسان وتحريره من كل ما أبهظه، سواء أكان ميراث التخلف الاجتماعي أم السطوة الرأسمالية.. إن هذه الرواية تفيدنا أكثر من عشرات الكتب السياسية والايدلوجية، وتدفع بنا للتمسك بالايجابي من تقاليدنا العربية، فلنقرأ هذه المغامرة الروائية الانسانية الفذة» المترجم.
لم يتحدث هنري ميللر عن السياسة ولاعن الاقتصاد أو الايدلوجيات، وإنما غاص في أعماق المجتمع المادي البراجماتي حيث تنهض القصور والمعامل جنباً إلى جنب مع مصانع الأسلحة والمخابر الكيمائية ومعامل الفولاذ ومصحات الأمراض المزمنة والسجون والفقراء والمشردين ومستشفيات المجانين، حيث يصبح الانسان آلة في طاحونة العمل اليومي والحياة العصرية وسباقاتها.
لم يروهنري ميللر سوى سيرته الذاتية البسيطة في بحثه عن نفسه وفي بحثه لها عن عمل ومأوى متطرقاً لبعض مغامراته العاطفية الساذجة.
كان منذ البدء، مجرد فوضى بدائية شاملة، غير أنه في أحيان كثيرة كان يقترب من المركز، حتى قلب الفوضى، وفي الوقت الذي كان فيه الآخرون يعدّون لانفسهم المضاجع المريحة، كان ينتقل من عمل إلى آخر، دون أن يبقى فيه مدة تجعله ينال منه ما يحافظ على روحه وجسمه معا، وبنفس السرعة التي كان يُعَّين فيها يُطرد أيضاً. وكان لديه الكثير من الذكاء، لكنه كان يوحي بعدم الثقة .
فحيثما ذهب أثار النفور منه، ليس لأنه مبدئي، بل لأنه كان ضوءاً كاشفاً يفضح بلاهة وعقم كل شيء، هذا ما ميّزه دون شكّ، وكان بإمكان الناس أن يعرفوا على الفور، حين يسأل عن عمل شاغر، انه لايهتم على الاطلاق إن حصل عليه أولا، ولم يكن يحصل عليه على الأغلب، ولكن، بعد فترة، بات مجرد بحثه عن العمل نشاطا خاصا، أو على الاصح، تزجية للوقت، يدخل ويسأل عن أي شيء. كانت وسيلة لقتل الوقت، ثم أمست أسوأ، حسبما رأى، من العمل نفسه.
وفي النهاية بدأ ينظر من جديد إلى الشمس نظرته الأولى المتفحّصة، موته وميلاده أمامه، حيث تبادل الداخل والخارج مكانيهما ولم يعدالتوازن هو الهدف، وعلى الرغم من أن هذه الرواية تعود إلى أوائل القرن العشرين، أي انها قديمة، وان فن الرواية تجاوزها بمراحل واسعة، إلا انها مشبعة بالحداثة المتقدمة في الفكر والاسلوب، ومتميّزة في استخدامها للتقنيات المتعاضدة مع السرد الجديد، وممتعة إلى درجة أنها قابلة للقراءة أكثر من مرّة، وكأنها ليست رواية، ولان فيها كثيراً من الشعر، في الروح الحميمية التي تصل إلى أبعد مداها البوحي، وفي اللغة وتراكيبها وانزيا حاتها، وفي الجرأة، وفي المفارقات والرموز والمجازات والكناية والاستعارات والتخيل والتي تحيلها إلى شعر في كثير من فصولها، بل وفي جوها المضموني والاسلوبي العام.
|
|
|
|
|