| مقـالات
حياة الإنسان مركب هائل من التفاعلات والتبدلات والاحداثيات والترابطات التي تؤدي بمجملها لحالة فريدة يحياها كل إنسان، وتتبدل وفق نمط معين من لحظة لأخرى، ومن ساعة لأخرى وفق ظروف ومتغيرات داخل نفس الإنسان وخارجها، في البيئة المحيطة بها، وذلك لحكمة ارادها رب العباد لبني البشر.
إن الإنسان بطبعه يحب الارتباط بإنسان ما أو شيء ما أو حالة ما، ولهذا كان الزواج على سبيل المثال من أقدس الروابط، وكذلك رابطة الأبوة والأمومة والأخوة من الروابط التي ذكرت في دستورنا القويم، وكذلك هناك حب العمل والمهنة والأصدقاء والوطن والأمة وغير ذلك من روابط محبة يتمتع بها الإنسان الطبيعي السليم، ويفتقدها الشخص الذي اضطربت نفسه، وشذ سلوكها.
وعندما يبتعد عن ارتباطاته فإن الشوق يهيج في نفسه ويحركها، وتضطرم نيران اللوعة التي يعبر عنها بالحنين، والذي يتجلى بمشاعر داخلية دفينة تمزج بين الحزن والسعادة بشكل استثنائي، وتظهر بعض التعابير على الوجه من دموع وتعابير خاصة، وبالطبع لا يحدث ذلك إلا بحدوث تبدلات تشمل البدن بكامله، وهكذا نرى الطالب الذي يدرس في الغربة يحن لوطنه وأهله وداره وكل ذرة رمل لها ذكرى في خياله، كما نرى الحنين بأجمل صوره عند ذلك الذي تأصل فيه حب ماضيه، فهو يتذكر لحظات الماضي لحظة لحظة بما حوته من أصدقاء وأشخاص وحالات ومواقف إنسانية عميقة المغزى.
إن الحنين هو تعبير بشكل أو بآخر عن الوفاء بأجمل صوره وتعابيره، ذلك الوفاء الذي حبانا الله به، ويرتبط بشكل وثيق بالسعادة التي يحياها الفرد وبالتالي مجمل الأمة، فالوفاء من شيم الكرام، والغدر والخيانة والانتهازية هي صفات النفس الضعيفة المتشرذمة المتآكلة.
الحنين هو الصفاء بأتم مكوناته ومقوماته، هو النبع العذب الرقراق الذي يجعل صفحة النفس البشرية ناصعة البياض مشرقة ساطعة براقة، وبريقها هو سطوع الشمس، وليس سراب الرمال.
إنه الراحة والاطمئنان، وعدم الندم، والاعتزاز بالنفس والثقة بها، وبنفس الوقت هو الدافع نحو المستقبل المشرق، وتحقيق الطموحات والآمال والأحلام، أما الحالة التي يصبح فيها الفرد بحالة تذكر مرضي للماضي فقط، فهذه حالة غير طبيعية لاتنطبق على حالة الحنين الرائعة في النفس البشرية.
ويمكننا القول: إن كلنا صغيرنا وكبيرنا، الغني والفقير، الرجل والمرأة، كلنا يحمل الحنين في نفسه بدرجات متفاوتة، وبتعابير مختلفة، ولحالات وظروف متغايرة، ولكن المحصلة حنين شامل يلف البشر بعمومهم.
إن التحام وتطابق حالة الحنين مع الصدق والواقعية والموضوعية يؤدي لحالة سمو حقيقية بالنفس وارتقاء بها وترفع عن كل الدونيات، ووصول لحالة تصل بصاحبها لسعادة حقيقية، وهذا لايصح إلا بوجود إيمان تذوق النفس حلاوته، وتنتعش به.
قد يحلو للبعض ان يعبر عن حالة الحنين بالمشاعر والأحاسيس، فينطلق الخيال الخصب ينابيع فياضة من شعر ونثر وغير ذلك، وقد رأينا حالات إبداعية كبيرة فجرتها حالة الحنين والشوق، فأدب المهجر مشهور في الأدب العربي، والحنين في الأدب العربي قديمه وحديثه معروف وواسع.
الحنين هو الوصلة السعيدة والمسعدة بين الماضي بما يحمله من ذكريات وبين الحاضر بما يمثله من وقائع وبين المستقبل بما يحمله من آمال وأحلام، والنفس الكبيرة الخيّرة الصادقة الفاعلة المؤثرة هي التي تعرف كيف تحافظ علي تلك الوصلة بكل معانيها. والله من وراء القصد.
|
|
|
|
|