| مقـالات
إن المتتبع لحال شبابنا اليوم يدرك إدراكا تاما أنه مع مزيد الأسف الشديد ضحية لعادات وتقاليد ومفاهيم خاطئة للغاية زرعها وغرسها الأهل والمجتمع فيه منذ طفولته وهي بالتأكيد عادات وتقاليد ومفاهيم لم نكتسبها في يوم من الأيام عن آبائنا وأجدادنا أو نتعلمها منهم لا سمح الله.. ذلك ان بعض الأسر المقتدرة تتفنن في تدليل أبنائها وتربيتهم وتنشئتهم على مبدأ تلبية جميع طلباتهم وتحقيق رغباتهم دونما أي تردد، فكل ما يريده الابن يقدم له على طبق من ذهب سواء كان على خطأ أو صواب وهي تغفل عن أنها تسد بذلك أمامهم أبواب النجاح والاعتماد على الذات.
نعم من حق كل أسرة ان تفكر في إسعاد أبنائها وفي توفير أسباب الحياة الكريمة والشريفة لهم دونما افراط أو إسراف في تدليلهم وترفيههم، ولكن مع ذلك عليها ألا تنسى أو تتجاهل أن تعلمهم أن دوام الحال من المحال وأن وسائل الثراء والترف والرفاهية من الممكن ان تسحبها الحياة في لحظة من تحت أقدامهم وبالتالي تدفعهم للاعتماد على أنفسهم وتجعلهم مستعدين لمواجهة ظروف الحياة وأحوالها المتقلبة..وفي المقابل نجد ان الأسر البسيطة تخجل من كونها بسيطة وتحاول إخفاء ذلك وادعاء العكس فينشأ الابن معتقدا ان ضيق الحال عار لا بد من إخفائه، ولذلك من المؤسف حقا ان نرى في وقتنا الحاضر أن بعض شبابنا لا يرضى بأي حال من الأحوال إلا أن يبدأ السلم من قمته، فالأسرة ونظرة المجتمع علمته انه فوق الأعمال البسيطة والمعاناة والتعب فإن تعذر وصوله للوظيفة والمكانة التي يحلم بها ولا يرضى بغيرها تجده يبقى ويظل في مكانه بل ويرفض حتى مبدأ القبول بالقيام بعمل بسيط خوفا من اهتزاز صورته التي عاش هو ومن حوله يرسمونها له في مخيلته.
بين يدي رسالة بعثت بها مشكورة والدة شاب في السابعة والعشرين من عمره وهذه الرسالة في الواقع كانت هي الدافع الرئيسي لي في الكتابة حول هذا الموضوع تقول والدة ذلك الشاب في رسالتها : « هو ابني الوحيد الذي رزقت به وقد كنا نعيش حالا ميسورا جدا.. وزوجي تاجر ثري ليس له سوى هذا الابن الذي كنا نغدق عليه الأموال ونحاول ان نوفر له جميع وسائل الرفاهية، فلم يتعود على التعب والمشقة في الحصول على أي شيء ولا حتى في دراسته، والنتيجة أنه تخرج من الجامعة بتقدير ضعيف.. وبعد وفاة والده بدأت حالتنا المادية تتدهور حتى ضاع كل شيء وبقي ابني الوحيد في مكانه يسخط على الحال وليس لديه استعداد لمواجهة المجتمع بغير الصورةالتي يعرفونه بها.. وكلما نصحته بالعمل يثور ويرفض ان يعمل لأحد.. أعتقد أنني أدفع ثمن الخطأ الذي ارتكبته، فأنا لم أفكر بإعداده إلا ليكون صاحب شركة أو مدير أعمال والده يرحمه الله».
وأذكر أنني رأيت شخصيا طفلا في الخامسة من عمره تقريبا لديه أربع خادمات ) نعم أربع خادمات( وظيفتهن فقط تقديم كل شيء له دون أن يتحرك فهن يطعمنه ويلبسنه ويلاعبنه ويقمن بكل شيء نيابة عنه فكانت النتيجة أنه أصبح معاقا يحتاج لإعادة تأهيل حتى يمارس حياته الطبيعية.. هذا مثال لما تفعله بعض الأسر بأبنائها معتقدين أنهم بذلك يوفرون لهم السعادة والراحة والرفاهية.. والأمثلة على ذلك كثيرة، فيكبر الطفل وهو معاق إما حركيا أو ذهنيا، وبالتالي تتزايد معاناتنا من الجيل المدلل الذي ساهمنا في خروجه بهذا الشكل.. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبكل قوة كيف نستطيع إعداد وتأهيل شبابنا ونجعلهم قادرين على مواجهة الحياة بظروفها وأحوالها وتقلباتها المختلفة!؟
وقبل الاجابة عن هذا السؤال لابد ان نؤكد اننا عندما نتحدث عن نظرة مجتمع بأكمله علينا ان ندرك ان التغيير لن يكون في لحظات أو عن طريق مقال صحفي ولن يكون أيضا بجهود فردية.. من وجهة نظري أتمنى أن تكون هناك سنة تطبيقية في الجامعات بمختلف أقسامها قبل التخرج تفرض على الطلبة ممارسة جميع الأعمال التي تندرج تحت تخصصهم أيما كانت ودون تمييز أحدهم عن الآخر، وعندها لن ترفض الأسرة ذلك لأنه جزء من دراسة ابنها ومرحلة لن يتخرج دون المرور بها، أما الطالب فقد يستفيد من الاحتكاك والتدريب ويجد نفسه في وظيفة مهنية معينة يمارسها دون خجل أو حياء.. ثم ان علينا جميعا ان نعلم جيدا ان الثراء والدلال قد يكونان نعمة أو نقمة في حال إفسادهما للشباب عماد الأمة ولمفاهيم المجتمع، وأعتقد أننا سندفع الثمن غاليا إن لم نعد أبناءنا لمواجهة الحياة قبل فوات الأوان ونجعلهم مهيئين لأي ظروف تطرأ علينا.. لابد من أن نكون أكثر واقعية في تخطيطنا للمستقبل وأن نتوقف عن زرع المفاهيم الخاطئة في عقول أبنائنا وفي نفس الوقت نكون نحن قدوة حسنة لهم باحترامنا للعامل والخادم والسائق والفقير، فالإنسان ليس منصباً وليس مظهراً أو مالاً بل قبل كل شيء هو شخصية وعقل وفكر ورجولة .. كما ان على المعاهد الفنية والمراكز المهنية دوراًَ فعالاً وكبيراً جدا في هذا المجال عن طريق تنظيم دورات منتظمة والعمل على استقطاب محاضرين أكفاء ومؤهلين لإعطاء الطالب دافعاً معنوياً وتعزيز قدراته وعزيمته على مواجهة المجتمع بعمل شريف يحتاجه المجتمع مثلما يحتاج الطبيب والمهندس والطيار..
وبعد.. هذه هي الخطيئة التي يرتكبها بعض الأهالي والأسر في حق أبنائهم ويصادق عليها بكل أسف المجتمع بنظرته الدونية لبعض الأعمال الشريفة. وهي خطيئة بلا شك لا تغتفر، ونتيجتها ان الوطن يفقد سواعد أبنائه في الأعمال المهنية والوظائف البسيطة رغم أهميتها الشديدة لبناء المجتمع.. فمتى نتعامل بوعي أكبر مع أبنائنا ونساهم في البناء السوي لنفسيات شبابنا؟؟
|
|
|
|
|